أجبرت الرغبة في البقاء قاطني صحارى الجزيرة العربية على سن قوانينهم الخاصة بهم نظرا للجهل بالأحكام الشرعية، معتبرين أن تلك القوانين وضعت لحماية وجودهم واستمرار حياتهم والتزموا بها، وسبب ذلك الالتزام ليس خوفا من سلطة تنفيذية تطبق تلك القوانين وإنما هو الاحترام لها قناعة من مطبقيها بأنها سبب حاجتهم لها مستقبلا ويتم التشجيع والاحتفاء بمن يطبق ويحترم تلك القوانين، وأما المخالف فالالتزام الأخلاقي اختياري له بقبول العقوبة غالبا فيستعاض بتطبيق العقوبة الاجتماعية من نبذ وإبعاد ومنها نتجت الطبقية الاجتماعية وعدم تكافؤ النسب.
لذلك برزت الحاجة لوجود منظمين لتلك التشريعات ومشرعين فظهر "العوارف" كحل يعتمد عليه حتى إن خالفوا الشرع في أحكامهم وكانت أحكامهم وضعية "عرفية" في الغالب تنطبق على جميع القبائل فيما يجنح بعض أحكامهم إلى الصلح، وهو ما يرى فيه خبراء القضاء في عصرنا الحالي موافقة للشريعة ولا يتقاطع معها وكأن يتم تصنيف أولئك القضاة إلى قسمين "مشهاة "وهو ما يوازي القاضي الابتدائي في عصرنا الحالي والذي يسمح للمحكوم عليه بالاستئناف إلى قاض آخر فيما القسم الثاني يسمى "منهاة" وحكمه نهائي مواز لحكم محكمة الاستئناف فحكمه مميز.
وأما القضاة في عصرنا الحالي فيرون أن القضاء في الفقه الإسلامي يقوم على ركيزتين أساسيتين هما العلم بالأحكام الشرعية سيما المتعلقة بالقضاء والركيزة الثانية هي الحدس والفراسة، فهاتان الركيزتان للقاضي كجناحي الطائر متى اختل أحدهما افتقدت المنظومة القضائية عنصراً من عناصر المهمة في التقاضي. وعدم جواز الاحتكام إلى هذه الأحكام لا يعني عدم الاستفادة منها بل ينبغي صرفها في مجال الصلح بين المتخاصمين والتوفيق بينهما وحل الإشكالات الناشئة بين الناس، أما الإلزام فهو للقضاء.
ذكاء لتحقيق الحكم
وقال خبير شؤون البادية محمد الضرباح: كانت الأحكام تعتمد على الذكاء النسبي "للعارفة" والذي يفوق بذلك بقية المجتمع يتخذ منه وسيلة لتحقيق حكمه بين المتقاضين سواء بإيهام الخصم بحدوث أمر جلل يجبره على الاعتراف أو من خلال خداع المتهم للحصول على الحقيقة، ومنهم على سبيل المثال العارفة المشهور جريبيع الضريغط الذي كان يستخدم ذكاءه الحاد في إصدار أحكامه وقد ضرب به المثل "ثارت من عند الضريغط" أي انتهت القضية من عنده نظرا لإقناع حكمه وأشهر قصص هذه الرواية أن أول حكم أصدره وعمره 10 سنوات بعد أن كان يجلس مع الأطفال في جلسة محاكمة علنية لأربعة أشخاص كانوا قد كسبوا جمل "حاشي" وكانوا يحثون الجمل على المسير وبلغ العطش مبلغه منهم فلما وصلوا إلى هجرة صغيرة كانت تحتوي على آبار متعددة قام ثلاثة منهم بالجري إلى الآبار للشرب فيما الرابع عقل يد الجمل وتبعهم للشرب فقام الجمل وبدأ بالمشي على يد واحدة حتى وصل إحدى الآبار فوقع فيها، فذهبوا إلى عارفة القرية وحكم لهم بأن يذبح لهم جمل مواز في الحجم للجمل الذي نفق وتوزيع ثلاثة أرباعه عليهم والاحتفاظ بالربع الباقي، فقام الطفل العارفة وقال بصوت مرتفع "لقد ظلمتهم" فسأله ما هو الحكم الصحيح فأجاب بأنه "قد أوثقت الربع الخاص بي فيما ثلاثة أرباعه هي من حمل الجمل ورميت به في البئر والحكم يكون بأن يذبح الثلاثة جملا موازيا ويمنحوه الربع".
المشهاة
وأوضح الضرباح أن من أقسام العوارف المشهاة وهو قاض يحق لمن خسر قضيته عنده أن يذهب إلى قاض آخر وهو ما يوازي في عهدنا الحالي قضاة المحاكم الابتدائية ومن أشهرهم العارفة عجلان بن رمال، ومن أشهر قصصه عندما حكم بعض العوارف بحق أخ لفتاة جميلة بجدع أنف آخر قبل أثر الفتاة في الأرض وأقسم على جدع أنفه ما لم يحصل على حكم من أحد العوارف يخطئ فعلته فعند حضورهم إلى عجلان "أوقف الشاب صباحا وفي موازاة للشمس حتى ظهر ظل أنفه على الأرض فطلب من شقيق الفتاة أن يضرب بسيفه ظل الأنف في الأرض فعندما ضربه قال حصلت على حقك، فطلب التبرير فقال كلمته الشهيرة "حقك في التراب وأخذته من التراب".
المنهاة
وأضاف الضرباح أن قاضي المنهاة الذي يمثل القاضي التمييزي في عصرنا الحالي لا يحق لمن حكم عليه أن يذهب لقاض آخر ويجب على شيخ القبيلة في حالة رفض الخاسر للقضية أن يجبره على الحكم وعدم قبول أي قاض آخر بالحكم بعده، ومن أشهرهم العارفة أبا الميخ من قبيلة عبده الشمرية الذي سميت أحكامه باسم "مشخول أبا الميخ" أي أن حكمه منقى بالغربال ومصفى لدقته وأبا الميخ هذا أجرى له ابنه اختبارا في قصة شهيرة دلت على دقة أحكامه على الرغم من صعوبة القضية وكان ابنه قد هجر والده بسبب القضاء مخافة أن والده كان يظلم الناس فسافر الابن وعند صعوده إلى تل يوجد فيها رجم (والرجم صخور توضع في عالي التلال للمراقبة والدلالة على المكان) شاهد بيتا للشعر فيه زوجتان إحداهما لها طفل والأخرى ليس لها، فكان يقتصر عمل أم الطفل على أعمال البيت من طبخ وإعداد القهوة ورعاية طفلها فيما الأخرى يختص عملها بجمع الحطب ورعي الغنم والإبل فشاهد ابن العارفة الأم تحمل طفلها بعد أن خرجت الأخرى إلى المرعى تريد رميه في قدر طبخ "ألاقط" فلم تستطع أن ترميه وهي تشاهده فما كان منها إلا أن وضعته على ظهرها ورمته في القدر وذهبت ولحقت بالأخرى قائلة لها ارعي شؤون البيت والطفل وأنا سأقوم بعملك اليوم فعندما عادت الأخرى وجدت الطفل في القدر ميتا فصاحت بهم وعادت الأم لتكمل الصياح وتوجه التهمة لضرتها وتهدف من وراء ذلك كله إلى إدانة الضرة، فنزل ابن العارفة من التل واجتمع بزوجها الذي قال له القصة وأنه محتار بمن يصدق بعد إنكار المرأتين فقال له أعرف عارفة قريباً من هنا يحكم فيما بينهم فذهبوا إلى والده وكان الولد متنكرا يريد اختبار والده فطلب العارفة أبا الميخ من الضرة إن كانت صادقة أن تتعرى وتمشي أمام الرجال لإثبات براءتها إلا أنها رفضت بعد عدة محاولات على الرغم من إرهابها بأنها ستدان إن لم تفعل فعاد العارفة إلى الأم وطلب نفس الطلب الذي طلبه من ضرتها لإثبات براءتها فوافقت على الفور فأصدر القاضي حكمه بأن من قتلت الطفل هي الأم فنزع الابن اللثام عنه وقال صدقت يا أبي فقد شاهدت ذلك بعيني".
الرزقة
وبين الضرباح أن مصدر رزق العارفة هي "الرزقة" وهي ما يضعه المتقاضيان من مبلغ مالي أو طعام وحتى المواشي تختلف باختلاف ونوع القضية وصعوبتها والحالة المادية للمتقاضين.
البشعة (البلعة)
وأوضح الضرباح أن "البلعة أو البشعة" هي وسيلة يستخدمها أولئك القضاة لتحقيق الاعتراف، وكانت عبارة عن يد المحماس –يستخدم لتقليب القهوة - ويتم إحماؤها على النار حتى يتغير لونها بفعل الحرارة وتوضع قطعة من القماش مبلولة على لسان المتهم يتم إقناعه بأنه إن كان بريئا فلن تحرق لسانه وإن كان مذنبا فإنها سوف تحرقه وتجعله أبكم فعند قيام القاضي بعمله وعند تقريبها من المتهم فإن كان مذنبا يبدأ بالخوف والوجل "وينزي من مكانه بالإضافة إلى نشفان اللسان" فيما إن كان بريئا فإنه يثبت في مكانه إيمانا منه بأنها لن تحرقه من هنا يتبين للقاضي صدق أو كذب المتهم دون أن يحرقه إنما هي وسيلة لاستخراج الحقيقة، ومن أشهر أبياتهم الشعرية التي تدل على أهميتها كوسيلة لنزع الاعتراف قول شاعر عاشق رفض الاعتراف بهذا الحب عند أصحابه فقالوا لنضع "البلعة" عليك فقال
"عزالله إني بالع والحس النار
وعزالله أن النار تأكل لساني"
وهو ما يدل على اعتراف ضمني بأنه مذنب وأن النار ستأكله.
التطريف
اعتمد الحكم بالتطريف عند بعض قبائل المملكة وهو حكم يتم في حالة ارتكب أحد أبناء القبيلة خطأ في عدم الرضوخ لقوانين القبيلة في حالة مثل الزواج بعدم تكافؤ النسب أو جرم يخل بالشرف ويؤدي ذلك الحكم إلى نبذ المحكوم عليه وعدم زيارته والتعامل معه بالبيع والشراء ودخول منزله أو دعوته ويصل الأمر إلى عدم الصلاة عليه في حالة وفاته.
قوانين متنوعة:
المهربات: وقال المهتم في تدوين قصص البادية محمد الفهيد السحيمان "إن القوانين المتبعة والمتفق عليها من جميع القبائل كثيرة احترمت ولم تخرق من أحد على الرغم من قسوتها في أحيان كثيرة ويأتي ذلك الاحترام من كون القانون الذي تحترمه اليوم ربما تحتاج إليه في الغد، ومن أبرز تلك القوانين "المهربات" والمهربات هي ثلاث ليال كاملة تمنح لمن ارتكب جريمة عند قبيلة أخرى من قتل أو غيرها تكون كافية له بالهروب ومن ثم يتم تتبعه بعد تلك الليالي الثلاث.
المنع: وأوضح السحيمان أن قانون المنع ينقسم إلى 3 أقسام، قسم على الرقاب أي للنجاة بنفسك وقسم الركاب "وهي الجمال والرواحل" والقسم الأخير على "الوديث والدثاء" وهو الأملاك الخاصة فإن حصلت على منع في أحد تلك الأقسام لا يستطيع أن يخرقه أحد بل إن الأعداء هم من يحمونك إلى أن تنتهي مهلة المنع.
رد النقى: وبين السحيمان أن قانون رد النقى هو ما يوازي أخذ الثأر فإن تم غزوك من قبيلة أخرى فلك الحق بغزوهم تحت هذا القانون ويماثله في عصرنا الحالي "حق الرد".
الممالحة: وبحسب السحيمان فإن قانون الممالحة يحمي أصحاب البيوت ممن أكل عندهم أو شرب ويحرم عليه أخذ إبلهم أو أملاكهم ومن يكسر هذا القانون تطبق عليه العقوبات الاجتماعية الخاصة بالنبذ والإبعاد والتحقير وتلتصق به طوال عمره هو وأولاده وخواصه.
خطة الدين: عبارة عن دائرة تخط في الأرض ـ كما يقول السحيمان ـ ويوضع المتهم في داخلها في حالة عدم وجود شهود عليه ومن ثم "يسبع" أي يحلف سبعة أيمان بعدم ارتكابه للجريمة.
قانون الزنى: وأوضح السحيمان أن هذا القانون يعطي الحق لولي من زني بها أن "يسطي" بوجه الزاني أي أن يقوم بشج وجهه بخنجره لتكون علامة واضحة مدى الحياة ولا تقبل له شهادة أو جيرة أو يجار.
دخالة الحق: وأضاف السحيمان أن العرب قالت "الدخالة بلوى والكفالة شهوة " ذهبت مثلا عن أهمية الدخالة وهي أن يلوذ بك رجل لحمايته من آخرين فإن لم تحمه أصبح يلتصق بك عار يلازمك مدى الحياة ولا تنتهي الدخالة إلا بوصول القضية إلى "العارفة" لأنه لا يوجد وجه مستديم وإنما يرفع العارفة الدخالة بقوله "وجهك أبيض".
قراءة في أحكام العوارف
وقال القاضي بالمحكمة العامة بالأحساء عبدالرحمن بن عبدالعزيز القاسم: القضاء في الفقه الإسلامي يقوم على ركيزتين أساسيتين هما العلم بالأحكام الشرعية سيما المتعلقة بالقضاء والركيزة الثانية هي الحدس والفراسة فهاتان الركيزتان للقاضي كجناحي الطائر متى اختل أحدهما افتقدت المنظومة القضائية عنصراً من العناصر المهمة في التقاضي.
وأوضح القاسم أنه لا يسوغ القضاء بمجرد الفراسة أو الحدس ولو أصاب الحق ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق فعلم ذاك فذاك في النار وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة"، بيد أنه لا يمكن التعليق على هذه الأحكام السالفة من ناحية صحتها واتفاقها مع المبادئ الشرعية من عدمه لأن ذلك لا بد أن يسبقه معرفة الظروف والملابسات التي صدرت تلك الأحكام في ضوئها مما يتعذر معرفته بعد مضي مدة طويلة على تلك الأحكام.
وأضاف القاسم: ما يمكن قوله "أن هذه الأحكام المذكورة في التقرير قد اشتملت على الركيزة الثانية وهي الفراسة بلا إشكال إذ المواقف المذكورة تنم عن ذكاء وفراسة شديدتين فتبقى الركيزة الأولى وهي الأهم وهذا ما لا يمكن الجزم بتوفره في مصدري تلك الأحكام من عدمه لعدم الوقوف على وقائع تلك القضايا وهذا بالنسبة للقضايا الماضية أما في هذا الوقت فلا يجوز الاحتكام إلى الأحكام العرفية أو القبلية بأي حال من الأحوال والاحتكام إلى شيء منها كبيرة من كبائر الذنوب وهي من تحكيم غير شرع الله وقد قال سبحانه "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون" وقال سبحانه "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" وقال سبحانه "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فالاحتكام لشرع الله وحده دون غيره.
وأكد القاسم أن عدم جواز الاحتكام إلى هذه الأحكام لا يعني عدم الاستفادة منها بل ينبغي صرفها في مجال الصلح بين المتخاصمين والتوفيق بينهما وحل الإشكالات الناشئة بين الناس، أما الإلزام فهو للقضاء.
أحكام وضعية
القاضي في محكمة بريدة الجزئية الشيخ عيسى بن عبدالله المطرودي بين أن الأحكام على أقسام منها ما هو مخالف لأحكام الشريعة وفيه تعطيل للحدود ومضاد لأحكام الله وهذه أحكام كفرية لا يجوز العمل بها أو الذهاب لأصحابها ويجب الإنكار على أهلها وإبلاغ الجهات المختصة، وهناك قسم لا يخالف وليس فيه إلزام ويمكن أن يسمى صلحا ولا ضير فيه.
وأضاف المطرودي أن هناك حكما يسمى "التطريف" والحكم فيه ليس مستندا على شرع ويصل هذا الحكم في بعض الأحيان إلى مقاطعة تامة للمتهم حتى إنه يصل إلى عدم الصلاة عليه في حالة وفاته حتى إن كان الجرم في الشرع لا يستحق حكمهم أصلا.
وأوضح المطرودي أن أحكامهم التي تخالف الشرع مشابهة للأحكام الوضعية في عصرنا الحالي وهي أحكام عرفية ليس فيها دليل أو قياس.