المتابعون لسوق الأسهم ما زالوا يستذكرون ويتألمون ويبكون لما حصل في كارثة عام 2006 والتي سقط فيها مؤشر السوق من أكثر من (20) ألفا إلى أقل من (5) آلاف وخلال فترة زمنية قصيرة، أو خسارة أكثر من تريليون ريال في قيمة الأسهم، وهو سقوط أدى إلى خسارة عدد كبير من المتداولين ـ المضاربين ـ لثرواتهم ومدخراتهم، في مقابل كسب وثراء قلة منهم مع البنوك حتما لما حصل في حينه، أو على حساب الخاسرين، وهي معادلة سوق الأسهم في حالة غلبة أسلوب المضاربة وهو ما يتصف به سوق الأسهم السعودية، منذ ذلك التاريخ، ومؤشر سوق الأسهم في مستويات منخفضة، وأعداد الخارجين من سوق الأسهم بالملايين، ولم تتبق إلا القلة القليلة ولأسباب مختلفة. منذ ذلك التاريخ أيضا، ومستوى ثقة المستثمرين أو المتداولين منخفضة، إن وجدت، رغم أنه لا توجد قياسات مسحية لتحديد مستويات الثقة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية المهمة في المملكة سواء تلك المتعلقة بمستوى الثقة في سوق الأسهم أو الاقتصاد ككل أو حتى مؤشرات البطالة وكذلك مؤشرات نسب العمالة الأجنبية.
خلال الأيام القليلة الماضية، نشط سوق السهم بشكل لافت، حيث زادت مستويات السيولة تقريبا من (4) مليارات ريال يوميا إلى أكثر من (10) مليارات يوميا، وزادت شهية المضاربين في تداول الأسهم بأنواعها، مما أدى إلى ارتفاع مؤشر السوق إلى أكثر من (7) آلاف نقطة، وهو مستوى لم يصل له السوق منذ سنوات، كل هذا أدى إلى تحفيز أعداد كبيرة من (الأفراد) للدخول للسوق أو حتى العودة للسوق بالنسبة لمن خرجوا من السوق نتيجة أزمة السوق عام 2006، وكأنهم لم يتعلموا الدرس!
رغم ضياع أحلام الثراء السريع والفاحش للكثير، ورغم خسارة أعداد كبيرة ماليا ونفسيا واجتماعيا، ورغم المشاكل الاجتماعية التي أفرزتها الأزمة بين أفراد العائلة الواحدة، بين الزوج وزوجته، بين الأب وأبنائه، بين الأخ وإخوته، بين الأصدقاء، عاد بعض هؤلاء (والأعداد تتزايد) لسوق الأسهم وعادت أحلام اليقظة، الأحلام المستحيلة، أحلام لعل وعسى، وعاد معها البحث عن التوصيات والبحث عن تمويلات وقروض مالية من بنوك وغيرها، وقد يعود معها نشاط التحليل المالي عبر النت والشبكات الاجتماعية، وعاد سوق الأسهم ليصبح حديث واهتمام المجالس، وكأننا لم نتعلم الدرس!
في الاقتصاديات الناضجة وبيئات العمل والاستثمار الجيدة والصحية، لا نرى الأفراد يتعاملون في سوق الأسهم بشكل مباشر، ولا نرى أحلام الثراء والتحول من موظف أو معلم إلى مليونير بين عشية وضحاها، ولا نرى انشغال واهتمام المجتمع بجميع أطيافه ينصب في كيفية تحقيق الثروات السريعة، هذا لا يحدث في المجتمعات المتطورة، ويجب ألا يحدث في مجتمعنا لأنه خطأ أساسي ومحوري، وإذا حصل فإنه يحدث على حساب المصالح والمجالات الأخرى الأساسية والأولى باهتمام المجتمع.
ما يحصل في سوق الأسهم وما يغلب عليها من مضاربة يشابه ما يحصل في صالات القمار، فهناك لاعبون بمهارات وخلفيات مختلفة وإدارة لطاولة القمار، والكل يتعامل مع احتمالات تتغير مع كل لعبة، ولكن على المدى الطويل يخسر اللاعب، لأنه يتعامل مع مجموعة من الاحتمالات المتغيرة ولا يملك التحكم المباشر فيها من ناحية ولا في تصرفات اللاعبين الآخرين ومنظم اللعبة من ناحية أخرى.
نعم جبل الإنسان على حب المال وطلبه، ولكنه أيضا يملك عقلا ويجب أن يتعلم من الدروس، فليس من المعقول أن يعتقد أنه يمكن أن يصبح ثريا خلال أيام جراء المضاربة في سوق الأسهم دون أن يعي أن هناك احتمالا كبيرا بأن يخسر كل شيء، والدليل القاطع الصارخ ما حصل لكثير من الناس في نكسة عام 2006. ما يحصل هذه الأيام في سوق الأسهم وعودة أحلام البعض في تحقيق الثراء ما هو إلا ضرب من الجنون، فكم هم من خسر وأفلس مقابل من كسب واغتنى؟
ما لا يفهمه المندفعون لسوق الأسهم ولا يعونه بأن دخل الفرد يجب أن يدار بطريقة اقتصادية عقلانية (Rational Behavior) تعتمد على ما يلي:
1. تقسيم الدخل الشهري بين (3) أجزاء: الاستهلاك والادخار والاستثمار.
2. يتم توزيع الدخل الشهري وبالتالي الثروة بين الأجزاء الثلاثة بنسب متفاوتة تعتمد على عدة عوامل من أهمها: العمر ودرجة المخاطرة المرغوبة والأطراف المتأثرة بالقرار من أولاد وزوجة.
3. قرار الاستثمار في أسهم أو عقار أو أدوات أخرى يعتمد أيضا على عمر ودرجة مخاطرة الفرد، فمن عمره أكثر من (50) سنة، ولديه عائلة من زوجة وأبناء ينبغي ألا يضارب في سوق الأسهم، كونه يتعامل مع درجة مخاطرة عالية، إضافة إلى أن قرار الاستثمار في سوق الأسهم أو غيره ليس قراره وحده وإنما قرار العائلة.
أن يتحول المجتمع إلى مجتمع مادي أمر غير محمود ومؤشر سلبي لثقافة ومستقبل المجتمع، فأيهما أجدى وأنفع، أن يقضي المعلم والموظف جل وقته في البحث عن المزيد من الثراء والثروة أم يقوم بأداء عمله بالجودة العالية والتفاني بخدمة الوطن ورفعته؟