إذا كان معرض الرياض للكتاب اختار "الحياة.. قراءة" شعارا له هذا العام، فالحياة، ترجمة أيضا. يروي الدكتور عبد الله مناع – أحد نجوم الجيل الثاني من جيل رواد الثقافة والصحافة السعودية ـ في كتابه (تاريخ ما لم يؤرخ – جدة الإنسان والمكان)، أن "صغار التجار، كانوا يجدون حل مشكلة عدم معرفتهم الإنجليزية عند المستر أو مسيو جبريل، وهو مقيم سوداني أو إثيوبي ذو شخصية تثير العجب دائما والسخرية أحيانا، أسمر البشرة، شديد النحافة، يرتدي جلبابا محليا أبيض، وعليه معطف بني، وفوق رأسه طربوش مصري أحمر، وبيده منشة وفي الأخرى مجموعة من الأوراق داخل كتاب وربما قاموس، يجوب شوارع جدة الرئيسة، طوال الوقت، إلا أن ذلك لا يضعه موضع اتهام في قواه العقلية، إذ إني أحسب أنه كان يقوم بذلك التجوال المرهق ليعرض خدماته في الترجمة على أكبر عدد من زبائنه، كان يدعي أنه يجيد الإنجليزية والفرنسية معا، ولكنني أظن أنه بالكاد يقوى على ترجمة طلبات زبائنه إلى الإنجليزية، مستعينا بذلك الكتاب أو القاموس الذي كان يحمله، ولكن الأغرب في شخصيته، والذي يضعه موضع الاتهام، هو أنه كان يبدو أحيانا وكأنه يتحدث إلى نفسه، وهو يقطع السوق الكبير من شماله إلى جنوبه مرورا بالخاسكية، ليبدو ساعتئذ كما لو أنه نصف عاقل أو نصف مجنون!!".

حكاية المناع التي أوردها بسرده الماتع، وهو يتحدث عن حسني بكر بخش، أحد الأسماء التي لمعت في حارة البحر فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي بصفته أول من يحصل على ليسانس الآداب في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة، وأول جامعي من أبناء حارة البحر، قبل أن يتدرج ليصبح سفير المملكة في الهند، دفعته ليستطرد ناثرا معلومة - كعادة المناع الذي لا يكتب إنشائيات فحسب – "لم تكن اللغة الإنجليزية غريبة على مجتمع جدة التجاري والبحري وأبناء الطبقة الغنية بها، إذ إن معظم المراسلات مع العالم الخارجي كانت تتم بها، كما أن معظم المفاهمات مع ربابنة السفن كانت تجري بها أيضا".

لو دققت قليلا في واقعنا لرأيت أن آلاف الناس ابتعثوا منذ عقود للدراسة في الخارج، وعادوا أكاديميين، محترمين، لكننا للأسف – فيما أظن – لم نر لهم أثرا فعالا في الترجمة بكل فنونها.

صحيح أن هناك جهودا هنا وهناك، لكنها في تقديري لا تتوازي وأعداد ممن يفترض أنهم درسوا أو أجادوا أو حتى عرفوا لغات غير عربية، وإلا فيمكن افتراض أنهم ربما يكونون كلهم أو بعضهم "مسيو جبريل".. دون أن نتهمهم في قواهم العقلية!