في فيلمه الرائع "القرية" (The Village) الذي تم إنتاجه عام 2004 قدم المخرج "ام. نايت شايملان" قصة ذات مغزى عميق ربما ترتبط بشكل كبير بواقعنا الذي نعيشه اليوم.
يتناول الفيلم قصة قرية في أواخر القرن التاسع عشر تعيش في أرض محاطة بالغابات وتحيا حياة هانئة لا يشوبها أي تعكير كما حياة القرى في العصور الوسطى تقريبا. أهل هذه القرية الواقعة في واد محاط بالغابات صنعوا لأنفسهم سورا من أعمدة الأشجار التي يشعلون رؤوسها بالنار ليلا ولا يتجاوزونها، ذلك أنه في الغابات المحيطة بتلك القرية تقبع وحوش ذات أصوات مخيفة، والاتفاق التاريخي الذي أرساه كبار القرية هو أنه من غير المسموح على أي فرد من أهل القرية أن يدخل منطقة الغابات في مقابل ألا تتعدى الوحوش على أي من أهل القرية. بهذا عاش أهل القرية سعداء ولكن في ذات الوقت في خوف دائم من الوحوش في الغابات المحيطة بكامل القرية. عاش أهل هذه القرية منعزلين تماما عن أي عالم خارجي، وأطلقوا على تلك الوحوش التي لم يروها اسم "أولئك الذين لا نتحدث عنهم". في تلك القرية كان اللون الأحمر محرما، ذلك أنه لون تلك الوحوش الذي يجلب الحظ السيئ.
تبدأ أحداث الفيلم بمحاولة الشاب "لوشيوس" طلب الموافقة من مجلس كبار القرية بالسماح له بالمرور في الغابات والتوجه لأقرب قرية للحصول على أدوية ذلك أن وفاة أحد أطفال القرية بسبب عدم وجود الدواء أثقل كاهله. يكتشف الفتى "لوشيوس" أن أحد أبناء القرية المتخلفين عقليا واسمه "نوح" قد قام بالفعل بتجاوز الحدود والدخول إلى الغابات وقطف ثمار التوت الحمراء المحرمة، مما جعل لوشيوس يقتنع بأن الوحوش المحيطة بالغابة سوف تجعله يمر بسلام إذا آمنت أن نيته في العبور هي لغرض شريف، فيطلب على إثر ذلك من مجلس كبار القرية السماح له بالعبور خلال الغابات والتوجه لأقرب قرية من أجل الدواء ولكن المجلس يرفض طلبه، ويظل الفتى لوشيوس مثقلا بكاهل الانعزال الذي تعيشه القرية عن أي تواصل مع العالم الخارجي.
خلال أحد الأيام الهادئة في حياة أهل تلك القرية التي ينفقونها في الزراعة والرعي والحياكة وبسائط الأمور، يقرر الشاب لوشيوس مدفوعا بشجاعته تجاوز سور القرية الوهمي والدخول إلى الغابات، ولكنه يشعر بعد عبوره بأن الوحوش تنبهت له ورأته. في تلك الليلة تقوم الوحوش بتجاوز سور القرية والدخول لها، فيدق حارس القرية من على برج المراقبة ناقوس الخطر ليفاجأ أهل القرية وخاصة كل صغارهم بأول هجوم للوحوش يرونه في حياتهم، ويهرع كل السكان لمنازلهم لتحتمي كل عائلة في قبو منزلها. ويهرع الشاب لوشيوس لمنزل حبيبته العمياء "إيفي" من أجل إنقاذها والاطمئنان عليها، ويصور المخرج في تلك اللحظات ببراعة مشاهد الخوف الحقيقي البادية على أهل القرية من تلك الوحوش التي هاجمتها. وتستمر الوحوش في مهاجمتها للقرية وقتل حيواناتها وإثارة الرعب بين السكان وتكدير أفراحهم.
في تلك الأثناء يعترف الشاب لوشيوس بحبه للفتاة العمياء إيفي ويتقدم لخطبتها، ولكن الشاب المختل نوح المغرم بإيفي يرتكب جريمة حب ويطعن لوشيوس بخنجر في بطنه، وتتلطخ يداه بلون الدم الأحمر المحرم. تتدهور حالة لوشيوس الصحية ويصبح إنقاذه رهنا بالحصول على أدوية من القرى المجاورة. عليه، تقوم حبيبته إيفي بالطلب من مجلس القرية الذي يترأسه أبوها "إدوارد" للسماح لها بالعبور خلال الغابات للتوجه لأقرب قرية والحصول على أدوية لإنقاذ خطيبها. ويقرر إدوارد السماح لابنته العمياء بالقيام بتلك الرحلة، ويكشف لها سرا خطيرا يطلب أن يأتمنها عليه وهو أن تلك الوحوش ليست سوى أزياء تنكرية يلبسها كبار القرية لتخويف صغارها ولمنعهم من تجاوز حدود القرية خوفا عليهم من العالم الخارجي المليء بالشرور، وأن تلك الأصوات المخيفة في الغابات ليست سوى خدعة خلقها الكبار لتخويف الصغار.
تبدأ إيفي رحلتها للعبور خلال الغابة برفقة شخصين بدون الإفصاح عن ذلك السر الخطير، ولكن بإقناعهما أنها تحمل حجارة سحرية قادرة على حمايتهما من الوحوش في الغابة، ولكن الشابين المرافقين لها سرعان ما يسيطر عليهما الخوف المزروع بداخلهما منذ الصغر من تلك الوحوش، فيتخليان عنها ويتركانها وحيدة لإكمال المشوار. خلال رحلتها يظهر وحش حقيقي للفتاة إيفي تتمكن بعد رعب من قتله، ليتضح في النهاية أنه ليس سوى الشاب نوح متنكرا في أحد أزياء تلك الوحوش. بعد رحلة طويلة تصل الفتاة العمياء إيفي لنهاية الغابة لتجد سورا محيطا بها، تقفز من فوق السور ليصطدم المشاهد بحقيقة أنها قفزت السور لتجد نفسها في القرن الحادي والعشرين وليستوقفها حارس للغابة بسيارته الرباعية وأجهزته اللاسلكية الحديثة. يتضح بعد ذلك أن تلك القرية ليست سوى صناعة كبارها الذين آثروا ترك الحياة الحديثة لينشئوا مجتمع الفضيلة كما تصوروه، داخل إحدى المحميات المسورة في انعزال تام عن العالم الخارجي، وفي حياة أشبه بالقرون الوسطى.
الفيلم المليء بالرمزيات على كل الأصعدة يستحق المشاهدة والتأمل، وخاصة ذلك المقطع الذي يبرر فيه إدوارد والد إيفي لكبار القرية أسباب سماحه لابنته بالذهاب في رحلتها والخروج من القرية رغم تعهدهم جميعا بعدم العودة لحياتهم القديمة تلك أو السماح لأي أحد بالقيام بذلك.
لقد خلق كبار القرية خدعة تلك الوحوش لعزل أبنائهم عن العالم الخارجي وعن شروره التي يتصورونها، خلقوا لهم حياة شبيهة بالقرون الوسطى لحمايتهم من العالم الحديث الذي كرهوه، ولكن الواقع في النهاية فرض نفسه، فكان لا بد من شخص ما ليقفز فوق ذلك السور الذي خلقوه. والفيلم يترك نهايته مفتوحة للتأمل: هل عادت إيفي لتخبر أهل القرية بالحقيقة خلف ذلك السور؟ والأهم: هل كان أهل القرية سيتقبلون تلك الحقيقة؟ لقد خلقنا نحن مجتمع فضيلة مشابه لتلك القرية في الفيلم، فإلى أي مدى لا تزال أسوارنا قوية ومرتفعة؟