إن أجلّ سمة اختُصَّت بها الشريعة الإسلامية هي سمة الوسطية، وهذه الوسطية تمثل الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، فالله عزّ وجلّ الذي خلق الإنسان وفطَرهُ أعلمُ بالمنهج الذي ينسجم مع خلقته ويتوافقُ مع فطرته.. "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".
وهذه الوسطية هي التي تؤهّل الأمة الإسلامية للشّرف العظيم الذي خصّهم الله به، وهو الشهادةُ أمام ربّ العالمين على الناس أجمعين "وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتَكونوا شُهداء على النّاس وَيكونَ الرَّسول علَيكم شهِيدًا"، ولذلك وجب علينا أن نفهم ماهية هذه الوسطية، وكيف نحققها في أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا فنصبغ حياتنا بصبغة الله التي أرادها لنا.
الوسطية في التّصور الإسلامي هي توسّطٌ بين نقيضين يحمِلُ بعض عناصرهما ثم يؤلّف بينها ويجمعها بمعايير ربّانية ليخرج لنا وسطاً عدلاً لا يميل إلى أي منهما، ولذلك سُمِّيت من قِبل بعض العلماء "الوسطية الجامعة"، أي إنّها تجمع جمعاً عادلاً بين حُجَج وحقائق النقيضين دون أن تنحاز إلى أحدهما أو تتجاهله، كما يعتدل الميزان دون أن ينحاز إلى إحدى كفتيه، وقد روي في تفسير قوله تعالى "وكذلك جعلناكمْ أمّة وَسَطًا"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال "والوسط العدل، فتدعون فتشهدون له بالبلاغ وأشهد عليكم" رواه الإمام أحمد.
يقول ابن القيم الجوزية "مَا أمر اللهُ بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإما إلى إفراطٍ وغُلوٍ، ودينُ الله وسطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، كما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد".
فالوسطية إذن هي حقٌ بين باطلين أو اعتدالٌ بين تطرّفين أو عدلٌ بين ظلمين، وكتاب الله وسنة رسول الله كلّها أمثلةٌ في تطبيق هذه الوسطيّة فكراً وقولاً وعملاً في كل ميادين الحياة: في الاعتقاد والتصور، وفي التعبد والتنسك، وفي التشريع والنظام، وفي الأخلاق والآداب.
ففي الاعتقاد والتصور: الإسلام وسطٌ وعدلٌ بين الذين يُسرِفُون في الاعتقاد ويؤمنون بكل شيء بدون برهان من "الخرافيّين" وبين من ينكرون ويجحدون بكل ما وراء الحس من "الماديين". فالإسلام يدعو للإيمان المبْنِي على البرهان "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين". وفي العبادات والشعائر: فالإسلام كذلك وسطٌ وعدلٌ بين الأديان التي اقتصرت فروضها على الجانب الإنساني والأخلاقي وأسقطت الشعائر والعبادات كالبوذية، وبين الأديان التي انقطعت عن الحياة وتفرّغت للشعائر والنُسك مثل الرهبانية المسيحية، فالإسلام يجمع بين شعائر محدودة ثم يطلب من المسلم أن تنعكس هذه الشعائر عملاً نافعاً في الحياة، بل يجعل كل أعمال الإنسان عبادةً كونها أمرا جامعا لكل ما يحب الله ويرضى "سجود القلب والجوارح في محراب الحياة."
وفي التشريع والنظام: الإسلام كذلك وسطٌ وعدلٌ بين الإسراف في التحريم أو التحليل كفعل اليهود "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" (النساء)، وبين الإسراف في الإباحة كالمسيحية التي أحلّت ما حرّم الله في التوراة فجاء الإسلام الوسط "يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم".
وكذلك الحال في النظام الاجتماعي: فالإسلام وسطٌ وعدلٌ بين الرأسمالية التي تُغالي في الإغداق على الفرد على حساب المجتمع ومصلحته، وبين (الماركسية) التي تهضم الفرد حقه وتحجر عليه باسم المجتمع، فجاء الإسلام بموقفه الفريد ليلبّي ويتفاعل مع طبيعة خلقة الإنسان وفطرته الممزوجة بالفردية والجماعية لا يعطلها فلا يجورُ على الفرد باسم المجتمع، ولا يحِيف على المجتمع باسم الفرد.
وفي النّظام السّلوكي والأخلاقي: كذلك الإسلام وسطٌ وعدلٌ بين نقيضين، "فالكرم" الذي يحث عليه الإسلام هو خصلة كريمة بين "الشح" و"الإسراف"، وكذلك "الشجاعة" وسط بين "الجبن" و"التهور"، وكذلك الحال في كل السلوكيات.
للوسطيّة في الحياة الإسلامية تطبيقات لا تنتهي، سواء على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الأمة. وبهذا تميّز الإسلام عن باقي الأمم والشرائع والملل السابقة، وهذا ما عبّر عنه الإمام محمد عبده عندما قال: "ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين: قسمٌ تقضي عليه تقاليده الماديّة المحضة فلا همّ له إلاَ الحظوظ الجسدية (كاليهود والمشركين)، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانيّة الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية (كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند وأصحاب الرياضات)، أما الأمة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها الحقّين: حق الروح وحق الجسد، فهي روحانية جسمانية وإن شئت قلت: إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسد وروح، حيوان وملك، فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطاً، تعرفون الحقَين وتبلغون الكمالين".
ولكن الانحراف الذي أصاب الأمة في فهمها لروح هذا الدين الوسط أخرجها عن تيار الوسطية، فجاءت الدعوة الإصلاحية الواحدة تلو الأخرى لإعادة الأمة إلى الوسطية والعدل فكانت دعوات متتالية.. منها دعوة الإمام محمد عبده في بدايات القرن الرابع عشر الهجري التي جاءت لتعالج الغلو من جهتين: غلو الإفراط المتمثّل في جمود طلاب الدين وغلو التفريط من قبل جحود طلاب العلوم الغربية فتراه يقول "ولقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم".
إن جمود طلاب علم الدين يمثّل الغلو بالإفراط في التقليد للموروث والتّراث حتى أصبح غلواً يحجب الدين والإصلاح الإسلامي عن الدين، فخلق بذلك فراغاً دينياً وفصلاً للدين عن الحياة، أما جحود طلاب العلوم الغربية فإنه يمثل الغلو بالتفريط وذلك بالانحياز إلى عالم الشهادة رفضاً لعالم الغيب، وبالانحياز إلى الدنيا في مواجهة الدين، وإلى الأرض برفض حاكمية السماء.
ويضيف الإمام محمد عبده قائلاً "فلقد ظهر الإسلام -لا روحياً مجرداً ولا جسدياً جامداً- بل إنساناً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كلا القبيلين بنصيب، فتوافر له من ملازمة الفطرة البشرية ما لم يتوافر لغيره، ولذلك سمّى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعَدُّوه المدرسة الأولى التي يرقي فيها البرابرة على سلم المدنية".
الوسطية الجامعة هي طوق النجاة من التناقضات التي عجزت القوانين الوضعية البشرية أن تجد لها حلولاً ووجدها الإسلام بوسطيّته الجامعة؛ مثل الروح والجسد، والآخرة والدنيا، والدين والعدالة، والمجموع والفرد، والثابت والمتغير، والقديم والحديث، والنقل والعقل، والتقليد والاجتهاد، والدين والعلم .. إلى آخر هذه الثنائيات المتناقضة والتي كانت سنة رسول الله تصحيحاً وتوفيقاً لها.
لقد كانت طريقة حياة النبي صلى الله عليه وسلّم تجسيداً لمنهاج الوسطية في الإسلام، فكانت الوسطية بذلك معياراً لإسلامية مناهج الإصلاح ومقياساً لها، ومن ثم وجب علينا تحديد معالم ومنهج تيار الوسطيّة حتى نستطيع صبغَ حياتنا بها، وحتى نكون بحق ممن وصفهم الله بقوله: "وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لِتكونوا شُهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا"، وقد يصلح هذا أن يكون موضوع مقالنا القادم إن شاء الله تعالى بعنوان "معالم ومنهج تيار الوسطية".