هل تنبأ الشاعر محمد الماغوط قبل رحيله، بأهوال وطنه وعذاباته وجحيم واقعه وانجراحاته؟ وهل تكشّف لمخياله ذلك السعار المدوي الذي استباح بنية الكائن الإنساني وآدميته ورغائبه الحياتية وثوابته الدينية؟

لقد أطلق النظام السوري غرائزه الآثمة وإغواءاته التدميرية وتهديماته القهرية ورواسبه المتسلطة، وأفصح عن وجهه القبيح بكل سلالاته المشحونة بالاستبداد والعبثية والخطايا، والهمجية المأزومة. لقد فضح وعرى الماغوط السلوك الإرهابي والممارسات المعتمة، والخادعة والمرذولة لذلك النظام الفاشي والظلامي، من خلال حقده المتراكم ووحشيته الجهنمية، حين أطلق "شبيحته" كالغربان يسلبون الموتى لحومهم، وأجساد أطفالهم، وشظايا أرواحهم، وأعراض نسائهم.

لقد نسي نظام دمشق أن "الطغاة كالأرقام القياسية لا بد وأن تتحطم في يوم من الأيام" لقد كان الماغوط خارج سوق المزايدات، وخيانات الوطن التي غرق في وحلها كثير من أصابع النظام وأبواقه، من الكتاب والشعراء المزيفين وتجار الكلمة، ولذا كان واحداً من أطول قامات الشعر في كل العصور، فتأمل أعاصيره البحرية وعواصفه الرملية التي رشقها في وجه النظام، فكتب على شواهد القبور والأشجار وخشب المقاعد ـ لقد تعرضت للذل والهوان فبدلاً من أن أرى السماء رأيت الحذاء، رأيت مستقبلي على نعل الشرطي ومن خلال عرقه المتصبب فرحاً على ما يحدث من تعذيب.. الآن حين يرن جرس الباب أشعر بالرعب، وحين يرن الهاتف أتوجس خوفاً ـ إلى آخر شهقة في حياتي وأنا أحمل السجن على ظهري ـ نحن جيل رضع الإرهاب السياسي لذلك تراني مسكوناً بالذعر وأي شيء يخيفني حتى ولو كان مجرد فاتورة كهرباء ـ أتحدث عن "قمل" السجن والقدم الحجرية للسجان على قلبي، عن التوابيت وساحات الإعدام وشفاه غليظة لرجال قساة، عن الحلم الذي انطفأ وابتساماتنا وأهدابنا القاتمة ـ انظر إلى العالم فلا أستطيع رؤيته إلا من خلال الجوع والرعب والعبودية و الضجر، باستثناء صديقي القديم ورفيق الأيام والسنين الطويلة "الأمل" وربما سأتخلى عنه أيضاً، أمام طغيان حالة اليأس الشاملة ـ لست عنترة لكني أكتب بصدق ولم أكذب أبداً، هاجس الحرية يلاحقني وهو قديم جداً، ولن ننتصر على أعدائنا وأعداء حريتنا وتاريخنا ومستقبلنا بالسلاح الأبيض أو الأحمر، بل بالسلاح الأزرق أي الكلمة ـ سأمحو ركبتي بالممحاة سآكلها حتى لا أجثو لعسكر أو تيار أو مرحلة ـ لا يمكن ترويضي إلا بالموت ـ لدي أعصاب عظيمة تمنعني أن أنحني.

هذا ماقاله الماغوط في كتاباته والتي قال عنها خليل صويلح: "حين يكتب ينحني على الورقة البيضاء، كمن يريد نحر الكلمات بمبضع الجراح، مانحاً إياها نكهة الثمار الناضجة. لغة حامضة تترك طعمها بين الأسنان".