جميلة هي ابتسامته، جميلة وجنتاه الناعمتان كصفحة الثلج المشرّبة بأوراق الورد، حين تنتفخ أوداجه ويطلق أولى ثغثغاته ويحبو على الجريد، جميل ذلك الرداء المخملي حين يلتف حوله وتحيطه أمه بذراعيها تشده إلى خاصرتها فتختلط حرارة جسديهما كما تختلط خيوط الصوف المخملية حول ذراعيه، وهي تعتقد أنها لن تفارق هذا العالم أبداً، كيف وقد نسيت الدنيا مع ضيفها الجديد، فتربط تلك الموجات الخفية بينه وبينها. والذي يدعو للدهشة هو ما توصل إليه العلم الحديث لعالم الطفل؛ عن وجدانه، عن إحساسه، إذ توصل إلى أنه يسمع ويشعر ويضجر حين تضجر أمه ويسر حين تسر، بل ويضحك أيضاً وهو لا يزال جنينا في بطن أمه.

هذه المشاعر والعاطفة التي تأخذ من عملية سيرها في التطور مأخذ التطور في باقي الأعضاء.. هذه المشاعر التي وضعها الله عز وجل فيه وهو لا يزال جنينا.. ثم يأتي إلينا طفلا برئيا جميلا لا تحمل نفسه تلك البصمات السوداء التي قد تلوث مستقبله، ثم مستقبل الأمة، لأن أسلوب الحياة الذي سيلقنه إياه مجتمعه لن يظل كما هو إلى ما لا نهاية، بل سيتعرض للتغيير والتطور شأنه شأن أي شيء حي.

ولا تتسع هذه السطور لتتبع وجدانات الطفولة ونموها ودقتها المتناهية، في حين أن هناك عددا من الدراسات والمؤتمرات - في يومنا هذا ـ فيما يسمى "العنف ضد الطفل". أي أناس يمارسون العنف ضد الطفولة؟ وأي مشاعر إنسانية تقدم على هذا؟

كانت جداتنا حكيمات عندما كن يحذرن من ضرب أطفالهن وينبذن ذلك، فكن يقلن إنه - أي الطفل - يصبح "أخدع"، والأخدع في مفهومهن، أي الجبان، وللجبن أثر شديد القسوة على القدرة على اتخاذ القرار في رجولة الرجل، وتفعيل دور المرأة في بناء المجتمعات، وتطور الحضارات، فأنجبن رجالا أشداء سطروا التاريخ، فالعنف ضد الطفل يجعله جبانا إلى جانب أمراض اجتماعية أخرى كالكراهية، لما يزرعه العنف في نفوسهم من خوف وقلق.

إن من أبشع السلوك الإنساني هو تعنيف الأطفال، لما يتركه ذلك من أثر على بناء شخصية أحدهم وتحصيله العلمي ومستوى استيعابه، فقد سمعنا عن صاحب ورشة يضع دافع الهواء في مؤخرة طفل يعمل معه لم يتجاوز التاسعة لتتمزق أمعاؤه.. أي مشاعر تشوه الأطفال لدفعهم إلى التسول؟ أي مشاعر عندما تؤجر الأم طفلها الرضيع لمتسولة تجوب به شوارع المدينة طيلة اليوم في عز الصيف أو الشتاء لتتسول به؟ أي أم تلقي بالعربة في البحر وبها طفلاها لتتزوج بآخر؟!

كل ذلك وبالرغم من منصات المؤتمرات وقوانين المنظمات الدولية للأمومة والطفولة، في بعض البلاد العربية تملأ الشاحنات في الصباح الباكر بالأطفال، ليس للمدارس، وإنما للمحاجر ليصبحوا فنيين في تفجير الجبال والأحجار بالديناميت، ثم يعودون كل يوم ينقصون واحدا منهم، فماذا صنعت دولنا العربية لتهيئة الطفل بوصفه أولى لبنات المجتمع، لأن بناء المجمتع يبدأ ببناء الطفل كما في المقولة: "إن الرجل ابن ست سنوات"، كما أن العنف وأساليبه تجاه الطفل يزرع في نفسه مرض الكراهية والعداء للبشر في جميع سني حياته، ولهذا فقد نبه إيريك فروم Erik Fromm إلى أن المجتمع ومثاليته لا يستقيم إلا في رباط المحبة، كما نبه إلى ذلك كل من جان جاك روسو في تشخيص أمراض المجتمع وعلاجها، مشيراً إلى الطفل والعناية به منذ شهقته الأولى، ومن قبلهم أفلاطون في تصور المدينة الفاضلة أو "اليوتوبيا"، كما أن التآلف والتحاب في البناء المجتمعي الحديث ونظرياته وطرق علاجها، قد أمرنا الله به في كتابه عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لما يوفره هذا المجتمع من الطمأنينة والرعاية للفرد وبالتالي الأمة، وفي هذا المضمار تتساءل عالمة النفس، الدكتورة ألفت حقي، في كتابها سيكولوجية الطفل فتقول: " فإن تهيؤ هؤلاء المفكرين لأشكال المجتمعات التي خلقها خيالهم في حد ذاته مؤشر للمرض الاجتماعي الذي عانت منه مجتمعات كل منهم. فهل تغيرت المجتمعات عما كانت عليه آنئذ؟ وما الهيئة التي يكون عليها المجتمع اليوم عندما تطؤه قدم الطفل؟ وهل يعطيه هذا المجتمع العزة والرعاية والطمأنينة والدراية؟ وهل يوفرها له طوال الوقت منذ البداية حتى تشكل دعائم ثقافته وتهيئ الميدان لدينميات سلوكه السليم المجدي مع هذا المجتمع؟"

يجب أن نعيد النظر في مشاعرنا نحن وليس مشاعر الطفولة البريئة من وحشية الإنسان المعاصر، في زمن تحتاج فيه الأمة لبناء الإنسان وبناء العالِم والداعية والباحث والمفكر، لا المدمر لذاته وللآخرين. فأي طفل سوي من يعمل في محجر بإحدى الدول العربية ومعه مئات الأطفال يعملون على تفجير المحاجر ويتعاملون مع الديناميت، فلا يتوقف الأمر عند الخطورة على حياتهم بل يتعدى ذلك إلى العبث بوجدانهم وبأحاسيسهم فينشأ جيل من أطفال النار والخراب والمتفجرات، ويرجع ذلك لعوز الأهل لعمالة أطفالهم، وفي نهاية الأمر وجود مأتم كل يوم في كل بيت معوز ومحتاج.

لا يرى الإنسان أسوأ من دمعة طفل على خده، فحينما أراد التشكيليون التعبيريون التعبير عن قبح العالم بعد الحرب العالمية الثانية، رسموا طفلاً تنحدر الدموع على خديه، للوصول إلى معنى الصرخة في وجه العالم بكل ما يحمله من بشاعة الحرب والدمار، ولا تزال هذه اللوحة من كنوز التراث التشكيلي في متحف "اللوفر" بباريس.. فهل وقف أحدنا يتأمل ملامح طفولة وهي تتحول إلى قبح حينما يبكي طفل؟