في القرن الخامس قبل الميلاد، أمر "تشي هوانج تي" وهو ديكتاتور مخبول من أولئك الذين يغص بذكرهم تاريخنا الإنساني، أمر بمطاردة كل الكتب، كلها.. وحرقها حين اعتلى سدة الحكم.. لأنه - وطبقاً لوسوسته - كان يؤذيه رؤية المعرفة تزدهر بإمبراطوريته، فأعدم القراءة.. ومع حجم جرم ما فعله إلا أنه يعد نتيجة طبيعية؛ فالثقافات التي تستند على أساسات واهنة وهزيلة، تترصد لكل رأي وتخشى من أي كلمة لا تتفق مع ما اعتادت عليه.. فتجدها في حالة حرب دائمة مع الرأي الآخر، تتوهم بامتلاكها الحقيقة المطلقة.. وبأنها المسؤولة الأولى عن تهذيب أفكار الناس، لا تمارس كل ذلك باللين ومقارعة الحجة بالحجة والفكر بالفكر، بل بالقوة التي لم يخولها أحد بها، وكأي قوة متعدية، فهي تنتج أعداءها بنفسها، ليس هذا فحسب، بل تشعرك بأنها إن لم تواصل آناء الليل بأطراف النهار تضييقك على أولئك السيئين الموهومين، فإن أمرك مشكوك فيه. هذه الوصاية تتحمل المسؤولية عن جمود العقل وضمور الإبداع الذي لا يمكن له أن ينمو داخل قنوات ضيقة يُجبر الناس على الرؤية من خلالها.. على النقيض فإن الثقافات التي تقوم على أساس إنساني ومنطقي متين، لا تخشى من كتاب، ولا تتوجس من رأي مخالف.. متسالمة مع المختلف ولا تجد الأمر فاجعة، بل عقلانية.. لذا هي تزدهر وتنهض مجتمعاتها.. وحتى وإن لم يكن ذلك مقنعاً، وبأن تجارب الأمم لا تعني شيئاً، فإن عهد الإنترنت وفضاءاته المفتوحة لن تستأذن أحدا، وستكسر المنع الذي لا يقتل الأفكار بل يحييها أكثر.