سؤال التعددية والتسامح هو أحد الأسئلة الجذرية المطروحة على الإنسان اليوم. الإنسان الذي تشهد حياته المزيد من التنوع والاختلاف مما يجعله يعيد التفكير في ذاته وفي الآخرين وفي العلاقة بينهما. الإنسان الذي يعيش في الاستبداد يواجه ذات السؤال ويفكر في إمكان إقامة علاقة سلمية مع أخيه المقموع وسط عالم الخوف. إنسان المنزلة بين المنزلتين، أعني الإنسان العربي في دولة الثورة الذي أعلن رفضه للاستبداد ولا يزال يصارع من أجل التخلص منه ويكتشف في كل يوم وجوها جديدة لمجتمعه وأصواتا لم تظهر قبل للعلن. هذا الإنسان يفكر في فهم ما، في ثقافة ما للتعامل مع كل هذا.
يبحث هذا المقال في مفهومي التسامح والتعددية كعلامتين في طريق تحرر الإنسان. التسامح كان شعارا لمرحلة ما في سياق ما ويتم استبداله حاليا بمفهوم التعدد، باعتبار أن التسامح وإن كان أرض السلام والأمن إلا أنه يجب أن يتطور إلى أفق التعدد وإلا أصبح حجابا بين الذات والآخر. تنطلق مقاربتنا من محاولة إثبات ضرورة تجاوز التسامح إلى التعددية في أطروحات الفيلسوف الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه صاحب كتاب "الدين في الديموقراطية"، وهو كتاب مترجم للعربية وصادر عن المنظمة العربية للترجمة حديثا.
ترتفع عادة المطالبة بالتسامح بعد أن تنهك الصراعات الناس، ويروا أن خطرها يوشك أن يفتك بالجميع ويتسبب في القضاء على الكل.. في ذلك الحين ترتفع الأصوات التي تطالب بالتسامح، بعد أن كانت خافتة ومحدودة الأثر. يبدو أن الإنسان يحتاج إلى الكثير من الصدمات والأخطار لكي يستيقظ من تعصبه، فالتعصب عمى وشلل للعقل والتفكير.
في أوروبا، وعلى خلفية الصراعات الدينية الرهيبة، ظهرت المطالبات بالتسامح، وبدأ التنظير له والتفلسف فيه من أجل وضع مفاهيم عامة تحدد معنى التسامح وتؤسس له وتحوله إلى ممارسة. ظهرت تاريخيا أعمال كبيرة مؤسسة للتسامح، خصوصا في عصر التنوير وفلاسفته الكبار. ولعل جون لوك (1632ـ 1704) هو المثال الأشهر هنا. رفض لوك التعصب لسببين، الأول أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ، وبالتالي فكيف يسمح لنفسه بفرض آرائه على الآخرين؟ السبب الثاني لرفض التعصب أن فرض الأفكار لا يقنع الناس، قد يسكتون ولكنهم لن يقتنعوا، بل سيؤدي الفرض بالقوة إلى نتائج معاكسة. خرجت لمقاومة التعصب أفكار إنسانية تجعل من الإنسان القيمة الأولى وهدف كل التشريعات. ظهرت مبادئ الحرية والفردية وتم وضع التشريعات القانونية التي تكفل ألا يحاول أحد في المجتمع، ولا الدولة نفسها، فرض أي شيء على الآخرين خارج نطاق القانون الذي وضع من أجل الحفاظ على حرية وفردية الإنسان وحمايته من تسلط الآخرين ووصايتهم عليه.
إذن، التسامح هو موقف من المخالف، ينتج عنه الإقرار بحقه في ممارسة قناعاته، وإن كنت أعتقد في داخلي أن قناعاته هذه خاطئة. التسامح هو مبدأ يعني أنه ليس من حق أحد أن يفرض رؤاه على الآخرين مهما كان موقفه منهم. التسامح يضع حاجزا بين اعتقادات الشخص الخاصة وبين الآخرين، هو مبدأ يجعله يفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص.
الفضاء العام مشترك مع الآخرين، أما الفضاء الخاص فهو للفرد ولا يحق لأحد تجاوزه. كان التسامح خطوة هامة في تاريخ الإنسان جعل من الخطر المحدق بحياته يتوارى ويختفي بعض الشيء، إلا أننا نستطيع أن نقول إن التسامح تم تجاوزه اليوم وصولا إلى التعددية التي هي أعمق بكثير من مجرد التسامح.
الفرق بين التسامح والتعددية، كما يرى غوشيه، أن التسامح يعني قبول الإنسان لوجود مخالفين له في الحياة المشتركة رغم أنه يعتقد في داخله أنهم على باطل وأنه يمتلك الحق الكامل. التعددية تقضي على الوثوق والأحكام المطلقة.. إنها تدخل في معتقد الشخص ليتضمن في داخله ضرورة وجود الآخر المختلف وأن له بالضرورة نصيبا من الحق. يقول غوشيه "لا أعني بالتعددية مجرد التسليم بالوجود الفعلي لأشخاص لا يفكرون مثلك، وإنما أعني بها أن يدرج المؤمن في عقيدته الخاصة الوجود المشروع لمعتقدات أخرى".
التعددية بهذا المعنى هي ثمرة للنسبية، نسبية الحقيقة والمعنى. النسبية في المعرفة تعني أن الأفكار التي نعتقد بها هي بالضرورة نسبية ولا يمكن لنا أن ندعي لها الصحة المطلقة. إنها أفكار أنتجتها ظروفها وقدراتنا الخاصة، ولذا فهي تبقى صحيحة في إطارها الخاص، ولكنها في إطارات أخرى أو في ظروف أخرى لا تبقى صحيحة بنفس الدرجة. على مدار التاريخ كان التعصب والتطرف ينتجان من أن الإنسان يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وفي هذه الحالة فإن من يختلف معه لا بد أن يكون مخطئا مطلقا. هذا الاعتقاد يجعل الإنسان يعطي نفسه حق التصرف بالتعديل والتبديل كما يرى. هذا الاعتقاد يجعله يقتحم ويتجاوز الخطوط الحمراء الكثيرة بينه وبين الآخرين. وباختصار فإن هذا الاعتقاد هو ما يجعل الإنسان يرتكب الجرائم ويريق الكثير من الدماء.
لو لم يكن هتلر مقتنعا مئة في المئة بأن العرق الآري هو العرق الأفضل في العالم والذي يجب أن يسود لما سمح لنفسه بارتكاب كل ما ارتكبه من جرائم. ولو لم يكن الإرهابيون في كل مكان في العالم يعتقدون أنهم على الحق المطلق لما استخدموا أنفسهم كقنابل. إذن المشكلة تكمن في الاعتقادات المطلقة والمغلقة.