عندما نريد أن نقارن، هل نقارن بين ما يقبل المقارنة أم ما لا يقبل المقارنة؟ ما هو الأمثل أن نفكر أم ندع المهمة للغير ليقرر عنا؟ الأولى فيها احتمال الصح والخطأ بالإضافة للمخاطرة في مواجهة من سيحكم بناء على فهمه وخلفيته، والمخاطرة هنا بأن يتخذ المواجهة ليس بالحوار والحجة والمنطق، بل بالملاحقة والهجوم الشخصي! إن كان التفكير سيأخذ صاحب هذه العملية الشخصية الذاتية إلى التشويش بسبب التحرك فوق قشور من البيض ويطالب ألا يغير في شكلها، وليس عليه أن يعترض أصلا بأنها ليست أرضا سوية بل مجرد قشور، فالخواء الفكري يبدو طريقا مغريا! ولكن بما أن غيرك، وممن له وزن وأتباع، قد قرر بأنها أرض مسطحة وليست قشورا، إذن فما يراه؛ هو ما يجب أن تراه، وهو أيضا ما يجب أن تنطلق منه، تقبل هذا، ومن ثم انطلق ما شئت في عمليات التفكير، وماذا سينتج حينها.. فوضى من الأفكار، ليس لها ملامح بغموضها وعمقها، تترنح بين المنطق واللامنطق، رؤى تستطيع أن تتطوعها في هذه المدرسة الفكرية أو تلك... أفكار آمنة... آمنة... آمنة... فارغة!

حينها ستطفو إلى السطح عمليات فكرية كالكلمات المتقاطعة، هنا كلمة، وهنا جملة، هنا إشارة وهناك طريق، المهم الرسالة الكبرى للعامة، والدقيقة المشفرة للخاصة، والمهم والأهم أن يضيع كل ذلك في فوضى فكرية، أي ممرات زئبقية تظهر كهامشية بينما هي العمق والمقصد، كانت الأفكار يوما تطرح في كتب ووثائق ومقالات ويرد عليها الفكرة بالفكرة والحجة وبالحجة والمنطق بالمنطق والدليل وبالدليل، أما اليوم وبفضل أفضال وسائل الاتصال والإعلام الحديث، تطرح الأفكار بسطر أو سطرين، وتقابل بحرب ضروس! لا هذه صحية ولا هذه مقبولة!

أصبحت الثقافة "تيك أوي"، جملة من هنا وسطرا من هناك، ويصبح الحامل أو الناشر مفكرا أو مثقفا، ولو أنه عرض لجلسة حوار، فستجد إما هروبا وإما "تزأبقا" في المفاهيم، وتتهم بعدها بكل التهم القاموسية المستحدثة، وتوصم بأوصاف أقلها جاهل ومعارض يسعى خلف البلبلة! وعبثا تحاول أن تفهم مصدر أفكار هجومية تصل لحد غير إنساني تصاحبها أفكار تتسم بالرحمة والتعاطف، وجميعها تخرج من فرد واحد يحمل مسؤولية القلم والقيم! وإن حاولت أن تفصل بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني، تركت لبراثين وأنياب الأتباع ينهشون بك، دون أي تدخل من المصدر الذي ينأى بنفسه عن الرد أو الحوار العقلاني، لأن من ليس مع كل ما يقدم ككل دون أي تجزئة إذاً فهو ضد مجموع ما يمثله المصدر، والذي من ضمنه القيم الإنسانية!

هنالك من يعاند ويسير ضد التيار، فيمزق ويقطع، وهنالك من يرمي قلمه ويترك الساحة اشمئزازا، وهنالك من يأخذ استراحة محارب فيبتعد ليراقب متى يستطيع أن يدخل دون أن يتعرض لشظايا من هنا أو هناك، ويبقى من يستمر ويحدد جمهوره ممن يفهم بالكلمات المتقاطعة ويلاعبهم على فترات متباعدة، وكلما انتهى من فكرة ربطها بأخرى جديدة، يرسلها بلباس المجهول لتدور وتعود إلى ملعبه، فيتعامل معها على أنها ليست منه ولكن بما أنها وصلت، وجب التحليل والتقييم، عمليات تبرؤ وتبن مدروسة، لا تخرج إلا ممن يعرف أين الثغرات وكيف يدخل منها.

إنها أفكار أولا وأخيرا، ليست منزلة وليست مُقدسة، بمعنى أنها قابلة للتحليل والنقد والنقض، ولكن بما أن البعض يعتبرها سموما، فهو يحاول أن يبترها، بينما هي تعود وفي محتويات وأشكال عدة، فأيهما أفضل، مواجهة ما تعتقده سما، وقد نكون مخطئين، ومن ثم إيجاد الفكر المقابل، أو تعزيز الفكر الموجود للمواجهة، أم تركه يدور ويعود لينتشر كالفطر في كل المساحات خاصة "السايبرية" أي الافتراضية؟!

لا نريد فوضى الفكر، نريد تلاقح الفكر، نريد مناورات ومناقشات، نريد النقد والمواجهة لا الإقصاء والتشهير، نريد فكرا يرتكز على تعمق في التاريخ والفلسفة والمنطق يُفعّل داخل نطاق حدود الله، يعمل من أجل بناء أرض الله، وهي لا تبنى بالسواعد فقط، بل بالأفكار أيضا، نريد أن نسمع ونقرأ لمخازن الفكر لا ممن يدعي الفكر، نريد السفن الضخمة للإبحار في هذا المجال، ونرفض أن نقاد من قبل أصحاب الزوارق الورقية! نريد أرضا من طين وماء وبذور، سئمنا القشور والتمثيليات الهزلية!