"الشخوص الغامضة الحزينة"، و"التجريد القابل للحركة الدائمة"، و"الحشد الفسيفسائي"، و"العنق الطويل"، كلها مثار أسئلة في أذهان من يقفون أمام لوحات التشكيليات السعوديات، حيث تحشد تلك اللوحات جيوشاً من الألوان المتمازجة للدفاع عما يدور في بال كل تشكيلية من فكرة وموضوع، ليؤكدن في الوقت نفسه تواصلاً واضحاً في الحضور والتواجد عبر التجارب الفنية للتعبير عن المشاعر النسائية.

الستينات الميلادية، سجلت الحضور المبكر للتشكيليات السعوديات في الساحة المحلية، وتحديداً في مدينة جدة، عندما بدأت التشكيلية صفية بن زقر بملامسة الحياة الاجتماعية في المنطقة الغربية بشكل مباشر، تلتها التشكيلية منيرة موصلي التي اتجهت مبكرًا إلى جانب إنساني يمس قضايا المجتمع العربي والعالم. وبخطوط صاعقة للتعبير عن مصير مجهول لا يمكن الإفصاح عن محتوياته، وبلونين متسللين كتسلل الضوء، تأتي أساليب بعض التشكيليات في مسرح فني مليء بـ"الثابت" و"المتحول"، كتعبيرات عن الكبت النسائي، إلا أن هناك من يرى أنها مازالت في طور "الشرنقة"، ولم تغادر بعد "سواد البلد" ولم تخرج إلى البادية لتجد "نسيم نجد".


حضور مبكر

الفنان التشكيلي عبدالرحمن السليمان اعتبر في حديثه إلى "الوطن" أن حضور التشكيلية السعودية كان مبكرًا في الساحة المحلية، وقال "منذ الستينات الميلادية بدأت التشكيلية صفية بن زقر ثم التشكيلية منيرة موصلي في مدينة جدة، والواقع أن بدايات التشكيلية صفية كانت تلامس بشكل مباشر الحياة الاجتماعية في المنطقة الغربية، ولم تزل هذه الفنانة حاضرة باتجاهها وأعمالها التي بقيت على علاقة وثيقة بمجتمعها ومحيطها لتؤرشف ذلك في دارتها، أما التشكيلية منيرة موصلي فاتجهت مبكرًا إلى جانب إنساني يمس قضايا المجتمع العربي والعالم، والتجارب الفنية النسائية واضحة من خلال ما طرَحْنَهُ في تجمعات فنية أو محاولات نحو الحداثة الفنية، بيد أن تقييمها في إطار العالمية صعب لأن الحضور الدولي يعني التأثير، وهذا من المبكر الخوض فيه".

ويرى السليمان أن هناك اتجاهات مختلفة بين الاهتمام بالمحيط والمكان والحياة الاجتماعية، وهناك حالات من الخيال والتوجه نحو عوالم خاصة، وتأثير الاتجاهات والمدارس الفنية الأشهر، وبين البحث في الحالات الإنسانية وحالات التجريب، قائلا إن "الفنانات التشكيليات في المملكة عموماً يؤكدن تواصلا واضحًا في حضورهن وتواجدهن وتجاربهن الفنية التي آمل أن تستمر وتتصاعد لتحقيق المزيد من الاكتشاف".


هوية خاصة

وترى التشكيلية علا حجازي - من خلال متابعتها لما يُعرض من أعمال للفنانات- تخبط بعض التشكيليات في متابعة الموضة العالمية التشكيلية دون إدراك كامل لأهمية ومعرفة إلى أين تتجه بأعمالها التشكيلية، فلا بد من هوية خاصة للفنانة تميزها عن غيرها، قائلة "للأسف أن قليلات فقط هن من وصلن لها"، إلا أنها عقبت "إلا أنني أعتبر المرأة السعودية ذكية بالفطرة، فإن أتيحت لها البيئة المناسبة والفرصة لإظهار إبداعاتها الداخلية، فإنها ستنطلق محققة أكثر مما تتخيلون".





حاجة للدعم

وفي المقابل قالت التشكيلية تغريد البقشي إن التشكيلية السعودية حاضرة وبقوة في المشهد التشكيلي، ومع أنها تحاصر بظروف أحيانًا تحاول تجاوزها بكل تحدٍّ وإصرار وتثبت وجودها في الساحة التشكيلية بعملها وفكرها وتميزها ونجاحها ومشاركتها في المحافل الداخلية والخارجية، إلا أنها تحتاج لتعزيز ودعم من جميع النواحي المادية والمعنوية والإعلامية، وتسهيل الاتصال والتواصل الداخلي والخارجي العالمي، مضيفة "إذا أردنا تسليط الضوء على حاجات ومطالب الفن التشكيلي النسائي فهو يتمحور في مجموعة من النقاط، أهمها توفير معاهد وأكاديميات متخصصة في مجال الدراسة التشكيلية والفنون الجميلة، ووجود جهة رسمية راعية للإبداعات الفنية الناشئة، وإقامة المعارض التشكيلية والمشاركة في الورش الفنية والندوات التي تهدف إلى تطوير الثقافة التشكيلية، وكذلك عقد اجتماعات دورية نقدية بعد إقامة المعارض تناقش فيها السلبيات والإيجابيات وتفادي القصور والضعف".


عقبات شائكة

وعن العقبات التي تواجهها التشكيلية السعودية، تؤكد التشكيلية مريم الجمعة، وجود عقبات تقف أمام هذا الفن - وتحول بين التشكيلية والعرض الجاد الذي يحفز نحو الاستمرارية والتواجد - ومن تلك العقبات، المجتمع نفسه ومدى فهمه للفن التشكيلي، وقلة دور العرض، وعدم وجود جهة تتبنى وتتحمل على عاتقها الأعباء المادية لهذه المعارض، واضطرار الفنانة للبحث عن راعٍ بنفسها وما قد يسببه من مشاعر الهوان.


اتجاهات مفتوحة

أما التشكيلية عواطف صفوان، فترى أن التشكيلية السعودية تشهد نشاطًا فعالاً وواسعًا، من شأنه أن يشد نظر كثير من المتابعين إلى حراك الفن التشكيلي، وهي في الوقت نفسه تسير مع أخيها الفنان التشكيلي يدًا بيد. قائلةً "نحن كـ"فنانات" دائمًا نتأثر بالحياة التي نعيش فيها، وزمن المدارس الفنية واتباع طريق واحد قد ولى، وأصبحت الاتجاهات مفتوحة على مصراعيها أمام الفنان والفنانة؛ لاختيار ما يلائم الفكرة، والتشكيلية السعودية مثل زملائها وزميلاتها في العالم أجمع لا فرق، والفن السعودي ليس سوى جزء من النسيج الفني العالمي يرتبط به ويسير بسيره". بينما ترى التشكيلية أمل فلمبان صعوبة تحديد موقع الفنان؛ لأنه على قدر عطائه للفن يجد مكانته، والفن لا يقيم بين التقليدية والابتكار؛ لأن استمرارية الفن تجعل الفنان في حالة تجدد وابتكار وفلسفة خاصة تعبر عن فكر وفن.


علم صغير

وحول اختلاف البيئات الفنية عالميًا وتأثيرها في نفسية الفنان أكدت التشكيلية نورا الجعفري عدم وجود فن عالمي وغير عالمي، وقالت: هناك عمل جيد وغير جيد، فلا ثمة فروق بيننا والتشكيليات الغربيات من حيث اختيار المواضيع والفكرة والإبداع والابتكار والتجديد، فالعالم أصبح صغيرا في ظل التكنولوجيا، ومن الطبيعي أن يكون هناك تبادل للخبرات والثقافات وما يصل إليهم يصل إلينا، والإبداع والابتكار يتولد من داخل الإنسان بعيدًا عن لونه وجنسه، نافية وجود عقبات فالطريق مفتوح أمام الواحد منا، ولم تفرق نورا بين ألوان الفنانة التشكيلية في اختيارها عن الرجل، فالحياة – عندها - مليئة بالألوان ولكل إنسان طابعه الخاص.


هموم مشتركة

أما التشكيلية مريم بوخمسين، فبينت المعاناة التي مرت بها التشكيليات السعوديات حتى وصلن إلى هذه اللحظة التاريخية وبعضهن هرمت وماتت ولم تر هذا المستوى من الفن، قائلةً "لقد سعينا بكل الوسائل إلى تطوير أساليبنا وأدواتنا حتى أثبتنا تميزنا في الوسط الفني وعلى المجتمع أن يتعود شيئا فشيئا على تواجدنا بقوة وأن يثق في قدراتنا وأهليتنا".

وحول مدى تعبير لوحاتُ التشكيليات عن المجتمع اللاتي يعشن فيه، ومدى تخطيها الحدود المحلية، قالت بوخمسين "إن الفنان يرسم لأنه يتأثر بما حوله؛ فكل ما يحرك إحساسه سيعبر عنه سواء كان من محيطه الضيق أم المفتوح، و في عصر العولمة أصبح هناك كثير من الهموم المشتركة والمواضيع المتداولة عالميًا، والفنانة السعودية حتما ستتأثر بكل ذلك، وستعبر انطلاقًا من ثقافتها المحلية إلى أبعد فضاء يمكن أن تصل إليه، دون أن تُغيب هويتها وطابعها الخاص".


مدارس سعودية

وحول تنوع المدارس التشكيلية التي خاضت فيها السعوديات أكدت بوخمسين أن فرشاة الفنانة السعودية انغرست في كل المدارس التشكيلية، بيد أن بعض الفنانات تميل إلى مدرسة محددة وأخريات يبتكرن لهن أسلوبًا جديدًا، وذلك يعتمد على تراكم الخبرات في الحياة، ومزجها بين الصور من الواقع والخيال، وحين نحاول تحديد موقع الفنانة السعودية بين الفنانات العالميات نجد أن كثيرا منهن تفوقن من حيث الأداء والتعبير والتنوع في الموضوعات والأساليب ليصلن لمعارض وفعاليات، ويحصدن جوائز على المستوى العربي والعالمي أحيانًا، مع محافظتهن على الثقافة المحلية الطاغية على أعمالهن وإبرازها للعالم بشكل مشرف ويدعو للفخر، بيد أن البيئة الغربية منفتحة أكثر منا، وبها مصادر تعليمية ومجالات تطويرية أكثر.