كان فرار أكثر من 60 عنصراً من عناصر تنظيم القاعدة من أحد سجون المكلا بمحافظة حضرموت شرق اليمن أول من أمس مؤشراً لتحرك تحاول القاعدة القيام به من أجل خروجها إلى مسرح الأحداث لتؤكد للعالم أنها لا تزال قادرة على لعب دور مؤثر على هذا المسرح، خاصة في ظل الأوضاع التي يعيشها اليمن هذه الأيام، حيث تعيش البلاد حالة من الانفلات الأمني تجسد في العديد من المظاهر، أبرزها غياب دور المؤسسات الأمنية في المشهد كله، حيث يقتصر دور المؤسسات الأمنية على مواجهة ثورة الشباب في ساحات التغيير، متناسية الدور الأهم المتمثل في محاربة الخطر الأكبر، المتمثل في تنامي دور تنظيم القاعدة في البلاد.
صحيح أن اليمن يخوض حرباً شرسة ضد تنظيم القاعدة منذ عدة سنوات، إلا أن الفارق هو أن الحرب خلال هذه الفترة تختلف عن بقية الحروب، فاليوم بدأ التنظيم يتمدد في أكثر من منطقة، وربما حضور التنظيم في معارك أبين منذ أكثر من ثلاثة أسابيع يؤكد أن المعركة هذه الأيام مختلفة، فالتنظيم يقاتل تحت سيناريو احتمالات عدة لمصير النظام اليمني، من بينها السقوط ودخول البلاد في فوضى عارمة، لذلك رمى التنظيم بكل ثقله في الميدان؛ ليصبح قادراً على لعب دور هام في المستقبل، أو على الأقل يصبح أحد اللاعبين الأساسيين في المشهد المقبل.
"أبين أولاً"
يتساءل الكثير عن الدور الذي يلعبه تنظيم القاعدة في هذه الفترة في ظل غياب التجانس العسكري والأمني في القيادة اليمنية، وقد أبدى الكثير من المراقبين مخاوف وتحذيرات للسلطات اليمنية من خطورة المخطط الذي تتبناه القاعدة في اليمن، مستغلة حالة الفراغ في السلطة بفعل المواجهات بين قوات الأمن والمعارضة وشباب ساحات التغيير المطالبين بإسقاط النظام القائم، ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح، واستغلال ذلك لإعادة ترتيب أوضاع التنظيم ابتداء من أبين وإعلان ما صار يعرف بـ"الإمارة الإسلامية" في "أبين أولاً"، ثم الانتقال إلى بقية المناطق المجاورة، بل إن البعض من المراقبين والمتابعين لشؤون القاعدة حذر من مخطط لتنظيم القاعدة للاستيلاء على المناطق الجنوبية من اليمن، خاصة أن هناك ترابطاً جغرافياً وتواجداً لأعضاء تنظيم القاعدة في العديد من مناطق الجنوب، بالإضافة إلى مناطق مشتركة مع المناطق الشمالية من البلاد مثل مأرب.
ويبدو أن صنعاء أرادت خلال الفترة الماضية أن تبقي هذه الورقة، أي ورقة تهديدات القاعدة، كورقة للمساومة مع الولايات المتحدة الأميركية، وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير، فالولايات المتحدة تأخرت في عملية التحرك لحل الأزمة السياسية القائمة في اليمن منذ اندلاعها في الحادي عشر من فبراير الماضي، مراعاة لطبيعة التعقيدات التي تعاني منها الحكومة اليمنية في حربها ضد تنظيم القاعدة.
لذلك عمدت واشنطن إلى "التهدئة" في معالجة الملف السياسي اليمني من خلال عدم مطالبتها للرئيس صالح بالرحيل، كما حدث مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك، إذ كانت ترى في الرئيس صالح شريكاً أساسياً في مجال مكافحة الإرهاب، وقد رصدت لوحدة مكافحة الإرهاب التي يترأسها العميد أحمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس صالح، مبالغ مالية ضخمة خلال السنوات الأخيرة، خاصة منذ إنشاء هذه الوحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، واستمر هذا الدعم طوال هذه السنوات، سواء على شكل أموال سائلة أو تدريبات أو تسليح لقوات صارت تعرف بـ"قوات النخبة" التي كلفت بمهام ملاحقة عناصر القاعدة في مناطق البلاد كافة.
واليوم، وبعد أن تحول تنظيم القاعدة إلى خطر جدي، فإن الولايات المتحدة لا تريد لهذه الجهود والإمكانات أن تذهب هباء، لذلك فإنها تحرص على إبقاء حضورها فاعلاً في هذه المعركة، لأنها تدرك أن تمكن تنظيم القاعدة من فرض حضوره في البلاد يمكن أن يتحول إلى ساحة جديدة من ساحات المواجهة المقبلة للولايات المتحدة، فالقاعدة لم تعد تشكل مصدر قلق للسلطات اليمنية أو الأميركية فحسب، بل صارت تشكل عامل قلق لكافة الإقليم، بل وللعالم كله، خاصة مع تواجد أنور العولقي في محافظة شبوة، وهو الذي تعتبره واشنطن القائد الفعلي لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية.
موقف المعارضة
لا تصدق المعارضة الرواية الرسمية، وحتى الأميركية، من أن تنظيم القاعدة يشكل خطراً حقيقياً في البلاد، بل ترى أن النظام يحاول استثمار "فوبيا القاعدة" لدى الأميركيين للحصول على المساعدات المادية وإبقاء الدعم السياسي للنظام، وهو ما أفصح عنه عدد من القادة العسكرية فيما أطلقوا عليه "البيان رقم 1" الذي اتهموا فيه النظام بـ"تسليم محافظة أبين" أواخر الشهر الماضي إلى مجاميع مسلحة خدمت النظام لسنوات طويلة واستخدمها النظام في خلافاته وصراعاته مع خصومه وإيهام العالم الخارجي بخطورة تنظيم القاعدة بهدف الحصول على أموال ومساعدات تذهب معظمها لتسليح قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة التي تعمل على حماية النظام ورموزه وليس محاربة تنظيم القاعدة.
ويستدل هؤلاء على ذلك بالتسهيلات التي تقدمها السلطات الرسمية للجماعات المسلحة في أكثر من مكان، ومن أبرز الشواهد على ذلك تسهيل فرار سجناء من تنظيم القاعدة من سجون محصنة، مثلما حدث في عام 2006 عندما فر 23 من أخطر عناصر تنظيم القاعدة من سجن الأمن السياسي في العاصمة صنعاء، وبعدها بأشهر فرار 10 آخرين من سجن الأمن السياسي في محافظة عدن، وتوجت عمليات الهروب مؤخرا بفرار أكثر من 60 من عناصر التنظيم من أحد سجون مدينة المكلا بمحافظة حضرموت، على الرغم من أن المبنى الذي يتواجد فيه عناصر التنظيم في السجن معزول عن بقية السجناء. بل أكثر من ذلك، يرى مهتمون في شؤون تنظيم القاعدة أن السلطة أخلت الساحة للجماعات المسلحة للدخول إلى محافظة أبين من دون أية مقاومة تذكر من قبل قوات الجيش الذي تنتشر معسكراته في مختلف المناطق التي استولت عليها هذه الجماعات، قبل أن تبدأ قوات عسكرية لاحقاً بإدارة معارك شرسة معها، وهي قوات أعلنت انشقاقها عن النظام، خاصة اللواء العسكري الذي يقوده فيصل رجب، وهو المنتمي إلى محافظة أبين.
سيناريوهات متوقعة
في ظل التعقيد في المشهد السياسي القائم في البلد، وفي ظل غياب الرئيس صالح عن هذا المشهد، تبدو إدارة الحرب ضد القاعدة مختلفة تماماً، فتنظيم القاعدة سوف يحاول بكل جهده استغلال هذا الوضع الاستثنائي لتعزيز موقفه في الساحة وتثبيت مواقعه في المناطق التي يتواجد فيها، في إطار مسعى لإنشاء "إمارة إسلامية" تكون قادرة على فرض مشروعها في المستقبل، كما أنه يريد أن يصبح لاعباً مؤثراً في الساحة خلال السنوات القليلة المقبلة.
أما مشروع الدولة اليمنية في حالة استتباب الوضع وخروجها من "الغيبوبة" القائمة اليوم، فإن مهمتها ستكون تصفية كل جيوب التنظيم من الأراضي اليمنية، والعمل على إسقاط هذا المشروع، وسيكون ذلك في إطار التعاون القائم بين النظام والدول الفاعلة في المعركة ضد القاعدة التي تقدم مساعدات سخية من أجل هذه المعركة، وهذه المهمة لن تكون سهلة، إذا ما تأخر الحل للأزمة السياسية القائمة، فأي تأخير في معالجة الأزمة القائمة في البلد يمكن أن يؤدي إلى مزيد من مد القاعدة لنفوذها في المناطق التي تسيطر عليها. ويبقى الأهم من هذا وذاك أن يفتح مشروع جدي لتحديث اليمن اقتصادياً وخلق فرص عمل حقيقية تنقذ الشباب من براثن الجهل والتخلف الذي يدفعهم إلى الالتحاق بمثل هذه التنظيمات المتطرفة وغيرها، وإذا ما بقي اليمن على حاله من دون معالجة وضعه الاقتصادي، فإن خطر القاعدة سوف يتعاظم في اليمن، بل إنه سيمتد إلى أبعد من ذلك.