إذا ما نظرنا فيما حولنا فلن نجد إلا ما هو محبط ومقلق ومزعج.. فنحن أمام مأساة يضعف أمامها أقوى الشجعان.. مأساة لا أعتقد أنها ستنتهي على خير حتى لو عاد العقل لمن فقد عقله، أو انهزم وعاد مرغما إلى الخلف بل إلى الحضيض. وظني أن الوضع سيبقى على حاله لأسابيع بل لشهور بل لأكثر من ذلك، فالفوضى انتشرت.. وحمل السلاح عم بين هؤلاء وهؤلاء، والثأر احتدم واشتعل، والطرح المشوه لمن حمل لواء حماية المواطن يستفز ويقهر القاصي والداني.. فها هو يقتل ليدير رأسه ويقتل من جديد وبدم بارد، وينام ليحلم كيف يدبر جرائمه بحرفية أكثر إتقانا، وكأنه في سباق مع الزمن.. فهو كما يظهر لنا يريد إنجاز أكبر عملية دموية شهدها العالم مؤخرا لحاكم أقسم على حماية وخدمة مواطنيه، أو لعله معذور.. فهو يتطلع لتخليد اسمه في "موسوعة جينيس" لتحطيم الأرقام القياسية‏ كسفاك وقاتل للأطفال!

إن المؤلم في هذا الكائن أنه الطبيب الذي أصبح رئيسا.. المؤلم أنه امتهن ادعاء الثقافة وأجاد صياغة الكلمات، أو على الأقل تنطع في إلقائها..هو ذاك الشاب الذي كنا نعتقد أنه سيأتي لبلاده بالخير والتقدم والرخاء.. الرجل الذي اعتاد التغني بالقومية وبالعروبة إلى حد مل العالم العربي من سماع أسطوانته المشروخة التي لا تأتي بخير، والتي لم تترك على أرض الواقع إلا نشازا أزعجنا وأزعج العالم من حولنا.

ثم إلى متى سيستمر هذا الجنون؟! الحق.. لا أحد يعرف كيف غيب قلبه! وهل هو الذي يحكم، أم إن هناك من برمج عقله فلم يعد يرى لون الدماء الذي صبغ شوارع بلاده ومبانيها، ولم يعد يسمع صراخ الأمهات وأنين الأرامل؟ ثم هل الأمر بيده ليؤيد هذه السياسة أو يرفضها؟! أعتقد -والله أعلم- أنه عاجز تماما عن البت في أي صغيرة أو كبيرة في السياسة الوحشية التي تطبق حاليا على شعبه. بمعنى آخر أعتقد أنه حاكم صوري ليس إلا! فقد ترك القرار الداخلي والسياسي لمن اعتقد أنهم حلفاؤه المخلصون الذين أدمنوا على التصفيق والتهليل له، في حين أن الواقع يؤكد أنهم من حفروا قبره وأمعنوا في تضييقه.

ومن جانب آخر لا أستوعب سياسة دول أيدت ما يدار على أرض بلاده من هدر لأرواح الأبرياء وترويعهم.. لا أستوعب دفاعها وتجاهلها ظلمه وطغيانه، أو لعلها تخشى على شعوبها من العدوى! أو على نفسها من هيجان وثورة متوقعة لديها! أو لعلها تتطلع إلى الخلود الذي نالها في الأحلام، أو لعلها لم تتعظ من التاريخ أو من نهاية رجال امتهنوا سفك دماء شعوبهم.. وفي هذه الحالة أو تلك لا شك أنهم تجردوا من كل معاني الإنسانية والرحمة والأخلاق. وعليهم أن يعلموا أن رفض سياستهم ليس نابعا من حكومات دول الخليج بل من شعوبها، بل من كل إنسان يملك قلبا ينبض بالحق والعدالة والإنسانية.

وليت القارئ الفاضل يقترح عليه حلا لخروجه من هذا المأزق بسلام، فلو تنحى فلن ينجو من المحاكمة ومن مطالبة السوريين بالقصاص، ولو تمادى في طغيانه فلن نضمن نهايته، فهل سيناله ما نال الحليف الذي صفق له منذ أشهر وفتح له القنوات لبث رسائله البهلوانية عبر الأثير.. لمن صوره بطلا وهو المهرج بامتياز، أم ستكون أكثر دراماتيكية ودموية؟، والغريب أنه لا يفكر في مصير أسرته وأولاده الأبرياء وعشيرته، فقد أصابه جنون العظمة فأصبح لا يفكر إلا في كيف يسمر قدميه فلا تتزحزحان إلا لتعودا مجددا إلى مكانهما، وبصمود وثبات أكثر مما كان حين كان شعبه مستسلما لسبات عميق.

ثم لو كان يخطط للهروب.. فإلى أين؟! أإلى إحدى الدولتين اللتين باعتا الشعب السوري بأبخس الأثمان؟! وهل هو قادر على أن يعيش على أرض أي منهما محكوما بيد من حديد، بعد أن كان حاكما مستبدا؟، وهل هو قادر على الحراك دون تصفيق وتزمير، وتجليل وتمجيد؟! وهل يعتقد حقا أن هناك طريقا للنجاة، وأن الشعب السوري سيقبل به بعدما أذاقهم طعم الغدر والخيانة،.. بعدما قتل أطفالهم ورجالهم ونساءهم وشيوخهم؟ الواقع أن طريق العودة قد أغلق.. هذا إذا لم يكن قد ردم واختفت معالمه.

ثم ألم يفكر أنه في عصر يختلف عن عصر أبيه، وأن ما كان ممكنا لن يكون كذلك اليوم، وأن لغة العالم تغيرت، وما يحدث على يديه لا يلامس الشعب السوري.. بل يلامسنا جميعا، وأننا وإن رفضنا العولمة بشكلها العام نؤيدها في موقفها من ضحايا سورية الشقيقة العزيزة، وأننا نؤيد سياسة بلادنا تجاه ما اقترفته حكومته، بل ندعمها ونطالبها بالمزيد، فما قرر لا يلامس السقف الأدنى من طموحاتنا ومن تطلعاتنا، وأننا لن نقبل إلا بنجاة الشعب السوري وانتهاء هذه المجازر المتتالية والمتفاقمة؟ فليكن.. ولو تطلب ذلك بتر العضو الفاسد، فقد يكون في ذلك نجاة شعب عظيم أسس حضارة إسلامية وإنسانية دامت لقرون.. شعب قادر على تكرار التجربة لو مكن من ذلك، والله المستعان.