"دع الباقي لهم" مشروع تعاوني لدعم جمعية الأطفال المعوقين تبنته شركة بندة العزيزية مع الجمعية، كان حصاده أكثر من 6 ملايين ريال (عكاظ يوم الأربعاء الماضي)، بعد أن شارك فيه أكثر من 15 مليون متسوق تبرعوا بالهللات المتبقية من حساباتهم.
وحصيلة البرنامج خلال فترة قصيرة، تؤكد أن التعاون والتخطيط وحسن التنفيذ تجعل من الأشياء الصغيرة وسائل كبيرة، تعظم من أثرها في حياة أفراد المجتمع وتعمق الاهتمام بها حتى تصبح ثقافة سائدة تتربى عليها الأجيال.. وفكرة "تجميع" الهللات المتبقية من حسابات المتسوقين وتصميم البرامج التي تشجع الناس على التبرع بالأشياء الصغيرة والمبالغ القليلة وتوجيهها إلى الأعمال الخيرية، فكرة بسيطة سبقتنا إليها بعض المجتمعات لكن العناية بها وجعلها مشروعاً وطنياً توجه ثمراته إلى أصحاب الحاجة في المجتمع فكرة جديدة لدينا لم تنتشر بعد، وتحتاج إلى المختصين والمهتمين لتكييفها حسب ظروفنا.. ويمكن التوسع فيها بعد وضع الأنظمة والضوابط التي تجعلها تحت إشراف مؤسسات وجمعيات موثوقة تستطيع أن تضبط تدفق هذه "الهللات" الكثيرة إلى حيث يجب أن توجه.
وهذا النوع من مصادر تمويل الأعمال الخيرية يوفر المال الكثير دون أن يضع العبء على الأفراد كما يزرع ثقافة "النفع العام" في وعي أفراد المجتمع على جميع المستويات ويحثهم على المشاركة في تمكين المؤسسات الخيرية العاملة من أداء واجباتها.. وإذا أدرك الجميع أهمية القيام بهذه المسؤولية فإن مثل هذه البرامج تعطي الفرصة لكل واحد ليؤديها بإمكاناته (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
وبرنامج "دع الباقي لهم" يبرهن على أن "تجميع القطرات القليلة" يشكل "نهر الخير" الذي تفيض ثمراته على "أرض" المحتاجين في المجتمع فيشعر جميع أفراده أنهم مساهمون في أعمال البر والتراحم فلا يشعر صاحب القليل أنه غير قادر على المساهمة ولا يشعر المحتاج أنه مضطر للوقوف على أبواب أهل الثراء. و"الهللات المتبقية" من البقالة أو الصيدلية أو المطعم أو محطة البنزين، تمثل في مجموعها، مبالغ مقدرة وهي تشكل دخلا غير منظور للعاملين في هذه الأماكن أو تدخل في هامش ربح أصحابها لأن الكثيرين يستهينون بها ولا يلقون لها بالا، بل إن البعض "يستحي" أن يطالب بها إذ يرى في ذلك "حرصا" يخدش صورة الإنسان الكريم. وقد استفاد البائعون من هذا "المزاج الكريم"!! فنراهم يضعون أمامهم مواد للتعويض (مناديل – حلاوة – لبان). والحقيقة أن الذي يأخذ هذه الأشياء بدل "الهللات الباقية" إنما يشتري أشياء لا يحتاجها ونفعها لا يتجاوزه ويفوت على نفسه فرصة كسب الأجر من خلال برنامج "دع الباقي لهم".
قبل عدة سنوات كانت "صناديق" جمع التبرعات تملأ الأسواق وتسد أبواب المساجد وتنتشر حيث التجمعات لكن الأحداث التي مرت والحقائق التي تكشفت عن مسارب ومذاهب الكثير من أموالها جعلت الجهات المسؤولة تعيد النظر فيها. وقد صاحب تلك الفترة إحجام الكثيرين من أهل الثراء عن التبرع بفضول أموالهم حتى لا يدخلوا دوائر "الشبهات". لكن التجربة أكسبت العاملين في قطاع الأعمال الخيرية وخدمة المجتمع والمؤسسات والشركات الوطنية الخبرة الكافية التي تمكنهم من إيجاد الصيغ وابتكار القوالب والبرامج التي تفسح المجال أمام تدفق الأموال إلى محاضن أعمال البر وفق أنظمة وقوانين واضحة يمكن مراقبتها وتدقيقها بما يزيد من ثقة كل المتعاملين معها والمتأثرين بها -المانحين والمستفيدين وجهات الرقابة-.
ومشروع "الهللات" نموذج صغير يدل على أن الابتكار والتفكير السليم قادر على إيجاد القنوات السليمة التي من خلالها يستطيع الجميع المشاركة في برامج التكامل الاجتماعي بعيداً عن الصور التقليدية التي كانت صالحة لظروف المجتمعات البسيطة لكنها لم تعد ملبية لاحتياجات العلاقات الاجتماعية المتشعبة. وفكرة تجميع "الهللات" من المتسوقين يمكن تطويرها وتكييفها لتشمل الخدمات الكثيرة (الهاتف – الجوال – الكهرباء – المياه – الصيدليات – المستشفيات – رسوم الخدمات – الفنادق) والتكنولوجيا الحديثة قادرة على إيجاد الطرق والأساليب المريحة التي يمكن من خلالها تنفيذ المشروع.. ويمكن استغلال الخدمات التي تقدمها أجهزة الصرف الآلي ووضع خيارات لطالب الخدمة يستطيع بها وضع تبرعه.
إذا اعتمدت الفكرة يمكن للنشاط الخيري أن يجد صيغة لتبادل المنفعة أو عقد شراكات مع المؤسسات والشركات الوطنية بحسب اهتمامها ورغبتها في تقديم مساهمتها. إن نجاح هذا البرنامج يدعو إلى التفكير في أمثاله وجعله على مستوى الوطن حتى يصبح مصدرا مهما من مصادر البر.