تراه لماذا استجاب المعتصم لنداء امرأة من بلدة نائية يقال لها عمورية تحرش بها أحد الروم؟ ولماذا جرد لها هذا الجيش الجرار؟ إليكم هذه الروايات الواردة في تفاصيل هذه القصة، قصة "وامعتصماه"، قبل أن ندخل في الموضوع:

تقول إحدى الروايات إن رجلا أتى المعتصم بخبر حادثة رآها قائلا "يا أمير المؤمنين كنت بعمورية فرأيت بسوقها امرأة عربية مهيبة جليلة تساوم روميا في سلعة، وحاول أن يتغفلها ففوتت عليه غرضه، فأغلظ لها، فردت عدوانه بمثله، فلطمها على وجهها لطمة فصاحت مستغيثة "وامعتصماه". فقال الرومي: وماذا يقدر عليه المعتصم؟ وأنى له بي؟"

وفي رواية أخرى أن امرأة وقعت في أسر الروم.. ورواية ثالثة أن روميا تحرش بامرأة عربية مسلمة، وأمسك بطرف جلبابها.. فصرخت "وامعتصماه".

المهم في الروايات الثلاث أن المعتصم لما بلغه أمرها سار لها بجيش كبير، وجهزه بما لم يعده أحد من قبله من السلاح والمؤن وآلات الحرب، ومضى به إلى عمورية غازيا مؤدبا، فلما استعصت عليه البلدة قال لجنوده "اجعلوا النار في المناجيق وارموا الحصون رميا متتابعا"، ففعلوا حتى استسلمت، ودخل المعتصم عمورية منتصرا، فبحث عن المرأة فلما حضرت سألها "هل أجابك المعتصم؟ فأجابت "نعم".. فأمر بالرجل الذي آذاها فجيء به، فقالت المرأة له "هذا هو المعتصم قد جاء وأخزاك"، قال المعتصم "فقولي فيه قولك"، قالت "أعز الله ملك أمير المؤمنين، حسبي من المجد أنك ثأرت لي، وحسبي من الفخر أنك انتصرت، فهل يأذن لي أمير المؤمنين في أن أعفو عنه وأدع مالي له"، فأعجب المعتصم بمقولتها وقال لها "إنك لجديرة حقا بأن حاربت الروم ثأرا لك، ولتعلم الروم أننا نعفو حين نقدر."

وقد أنشد أبو تمام يمجد ما قام به المعتصم في قصيدته التي مطلعها:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف

في متونهن جلاء الشك والريب

ويأتي عمر أبو ريشة الشاعر السوري القدير، يذكر صنيع المعتصم ويقارنه بالخذلان الذي عشناه في نكبة فلسطين عام 1948، يقول في قصيدته:

رب وامعتصماه انطلقت

ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها

لم تلامس نخوة المعتصم

والآن.. دعونا مرة ثانية قبل أن نصل إلى الموضوع نفترض هذه القصة الخيالية ونعوذ بالله من حدوثها:

"لو افترضنا أن غزاة هجموا على بيت الله الحرام وقرروا أن يهدموا كعبة الله حجرا حجرا.. وصرخ المسلمون في كل بقاع الأرض وحاولوا أن يكفوا أيدي المجرمين عن بيت الله.. وتدخل المجتمع الدولي وصوت مجلس الأمن من أجل التدخل لإيقاف هذا الانتهاك الصارخ للأديان ولوقف هذا الإجرام في حق مقدسات المسلمين.. ولكن حال دون إجماعهم صوتان لدولتين كبريين في مجلس الأمن (حق الفيتو)، فهل كنا كمسلمين سنرضخ للمشيئة الدولية؟ أم سنبذل الغالي والثمين وإن هلكنا جميعا للدفاع عن بيت الله الحرام؟ هل يظنن أحد أننا سنتخاذل ونترك المجرمين يهدمون بيت الله حجرا حجرا حتى يسوى بالأرض؟ لا والله.. لانتفضنا عن بكرة أبينا، ولكانت هبة المسلمين أشبه بهبة المعتصم يوم عمورية!"

فأين الموضوع إذن؟ صلب الموضوع هو: أين فهم المسلم اليوم ومشاعره؟ ومن أين يستقي قيمه وموازينه؟ إن المسلم يحمل أمانة لم تستطع حملها السماوات والأرض.. أمانة أن يكون مستخلفا في هذه الأرض، أمينا على آخر رسالات السماء. وهذا الاستخلاف يستوجب عليه أن يسعى ليكون ربانيا في أعماله وتوجهاته وحكمه على الأمور، فهل شعر المسلم بمهمته ووزن الأمور بميزان ربه وانفعل لها وفق هذه النظرة الربانية؟ وهل ينظر إلى القضايا بعين الآخرة لا بعين الدنيا؟ ويجاهد نفسه دوما أن يكون تقييمه لكل قضية وفق تلك المعايير التي وضعها له خالقه.. فما صغره وحقره الشارع فهو الصغير الحقير في نظره، وما عظمه الله وكبره فهو العظيم الكبير في عينه؟

فالله سبحانه، خالق السماوات والأرض ومن فيهن، هو الذي يعطي لكل شيء قدره وقيمته "قد جعل الله لكل شيء قدرا"، وما خلق الدنيا إلا للاختبار والابتلاء، كما قال سبحانه "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا"، وإن كل ما سوى الله إلى زوال وفناء "وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا" ولا يبقى إلا نتائج هذا الابتلاء من أعمال وافقت الحق وامتثلت لأمر الله سبحانه وتعالى، هي وحدها صاحبة الوزن يوم القيامة "والوزن يومئذ الحق"، فهل وزنا الأمور بهذه المعايير؟

لننظر إلى قضية إزهاق دم إنسان وقتل نفس بريئة بغير حق في نظر الله ومعيار شرعه.. نبدأ بقول الله تعالى "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"، ثم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول "ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه"، رواه ابن ماجة وصححه الألباني. ويفهم من ذلك أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من هدم الكعبة المشرفة. هذا هو مقياس الشرع ومعيار السماء.. بل وأبعد من ذلك أن يكون زوال الدنيا أهون عند الله من قتل المسلم بغير حق، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" رواه الترمذي وقال حديث صحيح. وفي رواية أخرى عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار"، صححه الألباني كذلك. وفي حديث آخر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا."

وبمثل هذا المعيار الرباني النبوي كان تقييم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لعظم وثقل حرمة دم المسلم، فها هو سيدنا الفاروق عمر رضي الله عنه يشدد في تغليظ سفك دم مسلم وتغليظ عقوبته، يقول "لو تآمر أهل اليمن على قتل رجل واحد لقتلتهم جميعا"، ويقول "لو تآمر أهل صنعاء على رجل واحد لقتلتهم به."

هكذا إذن هي حرمة الإنسان وحرمة دمه عند الله، وهكذا هي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كانت عند عمر رضي الله عنه حتى وصلت إلى المعتصم فلامست نخوته وفهمه نصرة لعرض امرأة وكرامتها.

فإذا كان دم مسلم واحد أعظم حرمة عند الله من هدم الكعبة، وإذا كان زوال الدنيا كلها أهون عند الله من قتل مسلم بغير حق، فكيف نفهم التخاذل في إيقاف ما هو أكبر عند الله من هدم الكعبة وزوال الدنيا؟

إن الدم المسفوك اليوم على غزارته لم يحرك ما حركته صرخة صاحبة المعتصم. لا نتهم بذلك نخوة المسلمين وحدها التي لم تلامسها صرخات المسلمين المتكررة، ولكنها لم تلامس كذلك فهم المسلمين لمهمتهم ومعاييرهم التي يقيمون بها الأمور وموازينهم التي ينظرون بها إلى الأشياء ووظيفتهم التي كلفوا بها وأمانتهم الثقيلة التي حملوها.