نسي الباحث الأسكتلندي، ألكسندر فلمنج، في عام 1928 قطعة خبز متعفنة قرب صحون بكتيريا كان يجري عليها تجاربه في المعمل. ولاحظ في اليوم التالي أن عفن الخبز استطاع أن يقتل البكتيريا المجاورة وإيقاف نموها، وليقطع الشك باليقين قام باستخدام أجزاء من عفن الخبز وحقنها في أنابيب تحتوي على بكتيريا خطيرة، وتأكد حينها فعلا أن عفن الخبز (فطريات تنتمي إلى جنس البنسيليوم) أجهزت على البكتيريا وأردتها قتيلة. نشر فلمنج نتائج أبحاثه في دراسة علمية لفتت انتباه الباحثين الإنجليزيين، إرنست تشين وهوارد فلوري، اللذين طورا الدراسة وقاما باستخلاص مادة (البنسلين) وتنقيتها بعد مجهود شائك وطويل. ونجحا في صناعة عقار (البنسلين) العظيم الذي أسهم في إنقاذ حياة الكثيرين على مدى العقود الماضية، وأدى إلى إثراء الساحة الطبية بالكثير من الأبحاث والمضادات، وألهم آلاف الأطباء والباحثين حول العالم، الذين اكتشفوا عقارات خدمت البشرية أجمع. وإزاء هذا الفتح العلمي العظيم نال الثلاثة فلمنج، وتشين، وفلوري جائزة نوبل في الطب عام 1945.
وفي إحدى عطلات نهاية الأسبوع عام 1939 نسي الرسام البريطاني لورانس لاوري أن يذهب للحفل السنوي للموظفين الذي تقيمه الشركة التي كان يعمل بها، وفوجئ بشاب يطرق باب منزله حينما كان يعد قهوته، وقد كان يحمل دعوة للمشاركة في معرض بلندن، وقال له الشاب، الذي بعثته إدارة المعرض لمنزل لاوري، إنه لو لم يجده كان سيذهب بالدعوة لفنان آخر حسب التعليمات التي تلقاها، فأحد الفنانين اعتذر في آخر لحظة والإدارة بحاجة إلى تحديد اسم البديل عاجلا، وقد فتحت له مشاركته في معرض لندن الدولي أبواب النجاح والشهرة. لقد اقتنى لوحاته عدد من المتاحف البريطانية، والمتاجر العريقة المتخصصة، وبات مصدرا لاهتمام الصحافة الإنجليزية والأوروبية. وصار لاوري اسما ذائعا، ليس في مانشستر وإنجلترا فحسب، بل في عدد من دول العالم بعد أن تعرف الآلاف على أعماله التي اتسمت بالبساطة والتميز. لاوري، الذي لا يتحدث كثيرا، لكنه يرسم كثيرا قال لصحيفة (الجارديان): "لا أدري كيف نسيت موعد الحفل في ذلك اليوم. وضعت الموعد في غرفة نومي وغرفة المعيشة وحتى دورة المياه، لكن الحمد لله أنني نسيت، وحصلت على هذه الدعوة المهمة في مشواري".
الحمد لله أننا ننسى، فبنسياننا نكسب كثيرا.. نكسب الأفراح ونخسر الأحزان. في حياة كل منا الكثير من الآلام والفقد. هذه الآلام قد تغتالنا وتغتال آمالنا لولا لطف الله بنا، الذي منحنا القدرة على النسيان.
إن النسيان ينقذ حياتنا. تخيلوا لو أننا نحمل كل الآلام التي تعرضنا لها معنا في كل زمان ومكان؟ ستكون حياة ممضة وعسيرة بكل تأكيد.
أحيانا نعاقب أنفسنا على النسيان، لكن لا ندري أن هذا النسيان هو الذي يحركنا ويقودنا. قد لا ندرك نعمة النسيان وفضلها علينا للوهلة الأولى، لكن مع القليل من التأمل سنعلم أنها ساعدتنا على التحرر من الكثير من الأحزان. إن مجرد التفكير بالأشخاص الذين فقدناهم قد يعطل حياتنا ويفقدنا شهيتنا ويطفئ جذوة حماسنا، بيد أن الله كريم بعباده عندما منحنا هذا الامتياز الذي يفتح لنا أبواب ونوافذ جديدة. لولا النسيان لما استطاع البشر تجاوز كبواتهم السابقة، واللاعبون إخفاقاتهم الماضية.
عند حضوري لمراسم أي عزاء أتألم عندما أرى الوجوه المكلومة، التي تبدو وكأنها تستعد للاحتضار، لكن سرعان ما يرزقها الله السلوان والنسيان، الذي يعيدها إلى الإقبال على الحياة من جديد، رحمة وكرما منه جل وعلا.
شكرا للنسيان الذي حول العفن إلى عقار، وأطفأ الكثير من الأحزان.