قبل 17عاما احتفل أهالي الريث شمال شرق جازان بأول وزير وطأت قدماه أرض محافظتهم إبان تدشين حجر الأساس لمشروع طريق جبل القهر، ومنذ ذلك الوقت ظل القهر جبلاً بلا طريق ينهي معاناة ساكنيه، رغم أن وزير النقل حينذاك المهندس ناصر السلوم شارك الأهالي عرضتهم الشعبية في يوم ممطر، وطلب منهم أن يبدلوا اسم "الجبل" من القهر إلى الخير.
تردت الأحجار, وماتت الأشجار، وطمست عوامل التعرية كامل الرخام والأرقام على ما تبقى من مجسم حجر الأساس الذي يبدو كأنه بترة منصوبة في صحراء؛ وأكمل العابثون مسيرة التشويه بكتابة ذكرياتهم لتبقى أطلالا تجسد مشروعا لم يكتمل.
ثلاث شركات تعاقبت على التنفيذ ولكنها لم تعاقب, ومكتب استشاري لا يدقق جداول الكميات ولا يهمه جودة التنفيذ بقدر مايهمه العقد الذي يكسبه في كل جولة يطمئن فيها على أن المشروع ما زال تحت التنفيذ.
بلدية الريث لم تيأس من تأخر تنفيذ المشروع؛ فأدرجت مسمى الطريق ضمن لوحاتها الإرشادية, ذلك أنها تبعث أملاً في نفوس المواطنين الذين مزقت أحلامهم سكاكين التسويف.
وتحول طريق القهر الجديد إلى متنفس كل عصر يفترشون جنباته، واتخذه الرياضيون ممشى، فيما استفاد منه رعاة الأغنام بسلوك الطريق المعبد بدلاً من المسالك المتعرجة التي يسلكونها لرعي أغنامهم.
تعثر وعبث
يقول رجل الأعمال علي دمنان النجادي "رزقني الله بمولود في العام الذي دُشن فيه حجر الأساس, لم أكن أتوقع وقتها أن ابني سيقود بي السيارة قبل أن يكتمل تنفيذ طريق القهر؛ غير أن هذا الذي حصل بكل أسف". وأضاف "هناك هدر واضح للمال العام في المشروع؛ كون بعض المبالغ صرفت لغير ما خصصت له"؛ وتابع "الدولة بذلت ولا تزال تبذل الملايين إلا أن هناك من يسهل عملية صرف المستخلصات للشركات التي تعاقبت على تنفيذ المشروع ولكنها لم تعاقب, رغم أن سوء التنفيذ لا يحتاج إلى دليل أو خبير؛ فهو أوضح من قرص الشمس في كبد السماء".
وتساءل دمنان: كيف يتخاذل المكتب الاستشاري المكلف بمراقبة سير المشروع كونه لم يقم بدوره الرقابي المطلوب, ولم يدقق جداول الكميات مما يؤكد ضرورة الرقابة على الرقيب؟
وأوضح دمنان أن هناك بعض المبررات التي يرددها المسؤولون لكنها غير مقنعة ولا منطقية في هذا العصر منها شح الإمكانات وصعوبة التضاريس، وقال "هناك بعض الطرق في المحافظات الجبلية المجاورة اعتمدت بعد اعتماد مشروع القهر ونفذت منذ سنين رغم أن التضاريس نفسها".
وختم دمنان بقوله "حدث خطأ فادح لا يغتفر, ذلك أن كميات طريق جبل القهر استنفدت في مشروع آخر بالمحافظة بسبب إهمال المقاولين؛ ليتداركوا خطأهم في الرمق الأخير, ويسحبوا ما تبقى من الكميات القليلة لمشروع القهر؛ ليظهر منظر التعثر والعبث هنا وهناك".
شريان حياة
من جهة أوضح المواطن يحيى مفرح الريثي أن أكثر الأسر التي تسكن جبل القهر هجرت بيوتها منذ سنين للبحث والقرب من الخدمات؛ إذ إن الطريق بالنسبة لهم "شريان حياة" وبدونه لن تستقيم الحياة على ظهر ذلك الجبل الذي تبلغ مساحته 12×15كم، وقال "بعض الأسر لا تزال تصارع الحياة صباح مساء عبر الخط القديم الذي يكسر ظهر من يصعده وما يلبث أن ينقطع بمجرد مرور سحابة عابرة".
وأضاف مفرح أن الخط الوحيد المؤدي لجبل القهر حاليا أنشأته شركة بن لادن قبل 40 سنة, وهو عبارة عن خط ترابي وعر بطول 25 كيلو مترا, يمتد من المحافظة ويقطع أكثر من عقبة وبه خطورة على سالكيه من الأهالي والموظفين؛ مشيراً إلى أن "الجبل أخذ من اسمه نصيبا؛ فأهله يعيشون القهر؛ فعندما يطالبون بالخدمات الضرورية تأتيهم الإجابة جاهزة من المسؤولين بأن الإسفلت لم يصل وفي حالة وصوله ستصل بقية الخدمات؛ متسائلا من المسؤول عن أسباب التأخير؟ وما ذنب المواطن الذي يئن تحت وطأة الألم وينتظر حلم أملٍ ما زال يحبو في دهاليز إدارة الطرق بجازان؟".
عيوب التصميم
من جانب آخر قال الباحث الجغرافي والرحالة حمد بن محمد العسكر "لست من سكان المكان ولكنني قمت بجولات وزيارات ميدانية ورحلات استكشافية وعلمية لجبل القهر زادت عن 30 زيارة وعانيت صعوبة الطريق الترابي الذي يقف كعقبة كؤود أمام كل باحث وزائر وسائح؛ فصلابة الصخور تحتاج إلى الدفع الرباعي الثقيل للتغلب على العقبات المتكررة, وقد مررت بطرق وعرة في جبل القهر شقها الإنسان وصنعها بيده دون استخدام الآلات وهذا أوج الجبروت والهمة التي رأيتها ولم أكن أتوقعها؛ فعلى شدة الوعورة تأتي قوة وعزيمة أهلها".
وأضاف العسكر "سبق أن مررت بالطريق الذي يجري تنفيذه حاليا ورأيت كثيرا من العيوب التي ارتكبت في تصميمه كتصريف الماء والانحدار السيئ ووسائل السلامة وزوايا الانعطاف الخطيرة وسوء اختيار المكان الأمثل لشق الطريق؛ وهذا ما يثبت سوء التخطيط وأن بعض الشركات لا تعد دراسة حقيقية للمشروع قبل البدء في تنفيذه؛ فقط أوراق وخطط نظرية لكسب المناقصة".
وتابع العسكر "قبل سنوات أربع أجريت مقابلات متكررة مع العمالة التي تعمل في الطريق الجديد, وكانت معنوياتهم محبطة بسبب تأخر رواتبهم, وبعد التعمق في الحديث معهم تبين أن المهندس الرئيسي لبناني الجنسية أوكل المهمة لمهندس ثانوي باكستاني, وكليهما محبطان لا يفقهان التخطيط بدليل أن الباكستاني في نهاية المطاف احتار لحظة وصولهم إلى نقطة الالتفاف نحو الشمال من غرب الجبل فأعطى الضـوء الأخضر للعامل اليمني الذي أخبرني قائلا بلهجته (حنا اللي نخطط ونشتغل والمهندسين زي الديكور ويزورونا كل أسبوع مرة ولما ملوا قال لي الباكستاني شف شغلك مع الجبل وشق الطريق زي ما تشوف أنت تفهم أكثر مني)، وهذا ما يحزن القلب عندما نجد من يخطط مشاريعنا وهو لايملك أبجديات التخطيط؛ فسبحان الله. أما آن للمقاولين أن يتقوا الله في أمانتهم ويؤدوها بإخلاص".
رداءة التنفيذ
وفي سياق متصل أوضح المواطن جابر موسى المسعودي أن الطريق يحتاج لمشروع جديد كون صلاحيته انتهت قبل أن يكتمل تنفيذه؛ مستغربا تأخر المشروع وقال "إن الشركات المنفذة لم تعترضها أي عوائق كالممتلكات الحكومية وحجج الاستحكام للمواطنين وإجراءات نزع الملكية, رغم أن طول الطريق لا يتجاوز 22 كيلو مترا والنسبة المتبقية من التنفيذ لا تزيد عن 6 كيلومترات"، وأضاف "والجزء المنفذ ضيق ومتعرج ومتهالك, ولا يوجد له أكتاف جانبية؛ بل إن مياه السيول طمست أجزاء من معالم الإسفلت وجرفت بعضه؛ وكان بالإمكان تلافي تلك العيوب في ظل دعم الدولة اللامحدود".
وتطرق جابر إلى نقص الحواجز الأسمنتية والعبارات وتصريف مياه السيول التي تتدفق من الشعاب بشكل مفاجئ وتحتاج إلى مدرجات حجرية تمتص سرعة جريان الماء, محذراً من تساقط الصخور التي تشكل خطراً يهدد عابري الطريق.
تخاذل وتهاون
من جهته أكد محافظ الريث عثمان الراجحي أن مبالغ المشروع معتمدة لكن المقاولين لم يتقيدوا بالمدد الزمنية, وأنه سبق أن أجرى اتصالات متكررة مع مسؤولي الطرق بجازان بشأن تهاون الشركات وتخاذل المقاولين, وأضاف الراجحي خاطبت مدير الطرق بجازان قبل أسبوع لتشكيل لجنة ووضع حلول عاجلة لاستكمال الوصلة التي توقف عندها العمل والتي تسببت في عرقلة الخدمات التعليمية والبلدية والصحية لسكان جبل القهر.
أسئلة حبيسة الأدراج
"الوطن" أجرت اتصالاً هاتفياً بمدير إدارة الطرق والنقل بجازان المهندس ناصر الحازمي وسألته عن أسباب تأخر المشروع إلا أنه اعتذر عن التصريح بالجوال بحجة أنه يفضل الإجابة الواضحة وطلب التواصل معه على الفاكس؛ وهو ما احترمته "الوطن" وتم إرسال الأسئلة بالفاكس مدعومة بخطاب رسمي إلا أن ذلك لم يشفع بالحصول على رد، وتعاقبت الاتصالات والرسائل المتكررة لمدة أسبوع كامل لتظل الأسئلة دون إجابة حبيسة أدراج إدارة الطرق.