إن الثقافة هي ذلك النتح للإطار المرجعي لدى الإنسان الفرد والذي تكون منذ نعومة أظفاره على مستوى أبعد من الذاكرة بكثير، ودائما ما يعترينا السؤال المحموم بالقلق الدائم من أين يولد الإبداع ومن أين يأتي الفكر وكيف تولد الأفكار فهل للثقافة رحم؟ فإن كان ذلك كذلك فإن علينا واجبا محتما بصلة الرحم، لأن ديننا الحنيف يحثنا دائما وأبدا على صلة الرحم ونحن فطرنا على حب كل ما هو مدعوم بأمور الدين وما تنبع به تعاليم ديننا التي أتت من مفاهيم الشخصية العربية، فالشخصية العربية شخصية مفعمة بالتواصل حتى إن علماء النفس أطلقوا على هذا النوع من التحليل النفسي (غريزة القطيع)، فقد كان العربي يحيا حياة الجماعة فيكون لبنة في لحمة البنية الاجتماعية، لا يوجد البطل الفرد في الثقافة العربية وفي الدراما العربية سوى في السير الشعبية، حتى في عنترة نجد أن أزمته تكمن في حتمية انتمائه للقبيلة التي يلقى عنادها في الاعتراف به من قبل الشخصيات الملازمة للحدث وكذلك سيف بن ذي يزن والزير سالم، والكتاب يعد رافدا فريدا من روافد ذلك الإطار وهو أهم ما في القضية.

إن اهتمام العالم بأكمله بالكتاب هو ما يجعل ينابيع الإبداع والمعرفة تتدفق في أرجاء المعمورة، ولكن هناك قضية هامة وهي أن يصدر الكتاب من طينته ليثمر في وجدان ابن تلك الطينة كما أسماها ابن رشد والفارابي وابن سينا فهل لدينا مؤسسة عملاقة يفخر الفرد السعودي بأنه ينتمي إليها على غرار مؤسسات النشر العالمية والتي تعتني بإصداراتها إلى درجة أنها تصبح من نفائس الكتب، فلا يخرج الكتاب إلا في صورته المثلى وخاصة مضمونه ومدارات نفعه وبقائه كمرجع أساس في المكتبة العربية والعالمية.

إن مشكلات النشر والناشر كانت من أهم الركائز التي ناقشناها في الملتقى الثاني للمثقفين السعوديين في مدينة الرياض العام المنصرم، ومن أهم هذه المشكلات هروب الكتاب بطباعة مؤلفاتهم إلى الخارج وهذا ما تنتج عنه أمور مهمة: الأول هو استغلال الناشرين للمؤلف السعودي ماديا، ثانيا نشر الكتاب خارج حدود البلاد فيحرم منه القارئ السعودي، ثالثا وهو الأهم أن "كل من هب ودب" أصبح كاتبا فنرى كتبا تقترب من وجبات (التيك أوي) فلا يعمر الكتاب سوى بضعة أشهر يقرأ في ساعة واحدة ولا نرجع له ثانية ولا يدرج في المكتبة العربية والعالمية بل وصل الأمر إلى أن أساتذة الجامعات لا يوافقون عليه كمرجع أساسي في دراسات الطلاب وهذا قد يترك أثرا سلبيا على الثقافة السعودية وكتابها المميزين، أين تذهب قاماتنا الثقافية بفكرها وبمؤلفاتها إذا لم تجد مؤسسة ثقافية رسمية تهتم بهذا الإرث لأجيال المستقبل، كما أن إنشاء دار نشر عملاقة في المملكة قد تعمل على حل الكثير من مشكلات البطالة من لغويين ومصححين ومهندسين ووراقين وعمال كما أنها ستعتني بالكتاب على المستوى الفكري فلا يقع بين أيدينا إلا ما خف حمله وارتفعت قيمته، إن الاهتمام بالكتاب من أهم دعائم الأمة فلا نجد إلا مغالاة في الأسعار وأفكارا لا تستغرق بين أيدينا سوى بضع دقائق ولا تحمل أي معيار نقدي كما تعلمناه في الأكاديميات، إلا أننا لا نغفل اهتمام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز طيب الله ثراه حين اهتم بموسوعة الأدب السعودي الحديث وصدرت في لغتيها العربية والإنجليزية فصدرت كما ينبغي أن يكون الكتاب مع العلم أن هناك إصدارات قيمة عملت المملكة على طباعتها ونشرها ولكننا نتحدث عن الظاهرة كما أن القارئ يواجه معضلة أخرى وهي الحصول على الكتاب ليكون في متناول يده، وبالتالي أصبح التوزيع أيضا من أهم مشكلات الكتاب.

إن وزارة الثقافة بوزيرها الرائع والشاعر المثقف هي المنوطة بإنشاء هذه المؤسسة أو الهيئة على غرار الهيئة العامة على سبيل المثال والتي تهتم بالنشر والتوزيع فالتوزيع نافذة هامة في صناعة الكتاب، فإذا كانت وزارة الثقافة تشتري المطبوعات من مؤلفيها فلا بد أن تكون هناك منافذ لهذه المطبوعات ليتم تداولها في سهولة ويسر فلا ينتظر القارئ المعارض والملتقيات لكي توزع مجانا في بعض الأحيان فلا بأس أن تطبع الوزارة الكتاب ولا بأس أن تبيعه عبر منافذها بعد قيام نخبة متخصصة في النقد على انتقاء الغث من الثمين مما تصدره، إن دور النشر المتناثرة هنا وهناك لا تفي بمتطلبات القارئ السعودي ولا تكفي لتدوين عالمه وخصوصيته التي ترسم ملامحه هو دون سواه للباحثين والنقاد والأجيال القادمة، "فالمطابع مغازل والباحثون ديدان قز، فاحذر أن تتعقد حولك خيوط الحرير" فيظل السؤال قائما هو: هل من رحم للثقافة حتى نصله؟