تحتضن المملكة كل بضعة أشهر وبشكل سنوي مناسبة وطنية أو فعالية فكرية أو ثقافية أو اقتصادية أوغيرها، فمن احتفالات اليوم الوطني إلى نشاطات مهرجان الجنادرية، ومن فعاليات جدة إلى احتفالات أبها، ومن معرض الكتاب في الرياض إلى مسابقة القرآن الكريم في مكة المكرمة. وهو أمر إيجابي ويدل على حراك ثقافي طال انتظاره.

إلا أنه للأسف لا تكاد تخلو مناسبة واحدة من هذه المناسبات من منغصات قد تغطي على الفعالية الأصلية وتدخل البلاد في حالة احتقان فكري أو ثقافي. ففي كل مناسبة يظهر لنا مجموعة من الشباب الغاضب ممن ليست لهم غالباً صفة رسمية، ويشرعون في سرد كمية المنكرات والمخالفات الشرعية التي تتضمنها هذه المناسبة، مستخدمين في ذلك كافة الوسائل المتاحة لاسيما في عصر الإنترنت وإعلام المواطن. بل ويحضرون شخصياً إلى هذه المناسبات ويتوجهون لإداراتها الذين يستقبلونهم غالباً ويسمعون منهم ثم ينصرفون. وما دمنا في بلد يحكم بالشريعة الإسلامية وسكانه بحمد الله كلهم مسلمون وهناك جهاز حكومي متخصص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بدور الحسبة وتدفع لهم أجور لقاء عملهم هذا، فإن دور المتطوعين من المحتسبين كان ينبغي أن ينتهي هنا. إلا أن ذلك لا يحصل بل ويستمرون في التشويش على الآخرين، وتنتشر الشائعات ويكثر التضخيم، وينقسم الناس في الصحافة والشبكة العنكبوتية ما بين مؤيد ومعارض، حتى تنتهي الفعالية وقد تركت في أفواه الجميع طعماً مراً أفقدها بهجتها ولم يحقق للغيورين مبتغاهم.

مشكلتنا الأساسية مع هؤلاء المحتسبين المتطوعين تتركز على أمرين بشكل رئيسي: أولهما، أنه لا يوجد اتفاق ولا إجماع على المنكر الذي يحاربونه ولا حتى في أصغر مدينة سعودية. فنحن لا نتحدث عن رجل وامرأة يفجران في الشارع، أو عن رجل يستحل الخمر أو يؤذي الناس أو يحقر الدين أو يفسد في الأرض، بل عن أمور بعضها مما نعايشه في الحياة اليومية ولا يعترض عليها أحد. فقد كانت هناك في الأعوام السابقة اعتراضات على الاختلاط في معارض الكتاب، فهل زار هؤلاء مكتبة جرير أو العبيكان؟ ألا توجد هناك امرأة ورجل والكتاب ثالثهما؟ فما الفرق إذاً بين المكتبة والمعرض؟ أليست أسواقنا ومطاعمنا ومستشفياتنا وشوارعنا وطائراتنا كلها مختلطة؟ أليس هناك اختلاط في قلب المسجد الحرام؟

وهناك اعتراضات على الرقصات الشعبية مع وجود حديث شريف يثبت بأن الأحباش كانوا يستعرضون في المدينة ولم ينكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أهل المدينة مشاهدتهم، بل دعا زوجته عائشة ـ رضي الله عنها ـ لتشاهدهم. وثمة اعتراض على الحفلات الغنائية بالرغم من وجود آراء مختلفة منذ الأزل بشأن الغناء والفنون. لا أحد يطلب من هؤلاء أن يغيروا قناعاتهم، ولا يملك فرد أن يزعم أنه وحده يمتلك الحقيقة، لكن من الصعب جداً أن تلزم الناس بالاحتكام للرأي الذي تلزم نفسك به وتفرضه على الآخرين إذا كان المسلمون قد قبلوا بالاختلاف في الآراء الفقهية منذ أيام ابن عمر وابن العباس رضوان الله عليهم أجمعين.

نقطة اختلافنا الثانية معهم، هي أنهم غالباً لا يحسنون الموازنة بين ضرر المنكر الذي يحاولون إزالته والمنكر الذي يترتب على إنكارهم ذاته. فالجماعات الإرهابية كانت تعتقد أن إنكار المنكر وهي إزالة هذه المجتمعات التي يتفشى فيها الفساد أو الظلم له الأولوية على ما سواه، حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب واحدة من أعظم الكبائر وهي قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.

وفي نقاش غير مريح تداخلت فيه العنصرية مع الحمية الجاهلية مع التعصب الديني على شبكة تويتر وجدنا من يترحم على من ارتكب أكبر تهديد لأمن البلاد وأشنع تهديد لمقدساتها باحتلاله الحرم المكي عام 1400 هجرية (الموافق 1979 ميلادية)، ومحاولة التبرير له بأنه كان يريد إنكار المنكرات التي تفشت في البلاد آنذاك، ومنها ظهور السيدة أم كلثوم –رحمها الله- على شاشة القناة الأولى حاسرة الرأس! مما يعني بأنه في ذهنية هؤلاء فإن الخروج على ولي الأمر، ورفع السلاح في محرم الحرام، واستحلال المسجد الحرام ومكة المكرمة، التي لم تحل لنبي الهداية إلا ساعة من نهار لعظم حرمتها، وقتل الحجاج العزل، كل هذا الفجور ضروري من أجل منع ظهور امرأة (مثل أم كلثوم!) على الملأ عبر شاشات الأبيض والأسود!

ومن المؤسف أن هذه القصة لا تدرس في مدارسنا، مع أنها يجب أن تكون حاضرة أبداً في ذاكرة الوطن حتى تذكرنا ماذا يفعل الغلو بأهله وإلى ماذا يمكن أن ينتهي التطرف، لكن الذي حصل هو أن تلك العصابة نالت حسابها، لكن فكرهم ظل باقياً بعدها وعانينا منه سنوات طوال. كم كان صعباً أن نولد بعد اندحارهم ثم نكون أطفالاً في الثمانينات والتسعينات الميلادية، حين كان يُمنع بيع دمى (باربي) علناً في محلات الأطفال في مكة المكرمة، وكان البائع يلتفت يمنة ويسرة قبل أن يخرجها لنا من تحت الطاولة. أما في مطار جدة فقد كانت بعض العرائس الكبيرة القادمة من الخارج تُعدم ويفصل رأسها أمام الصغيرات الباكيات لأنها تماثيل على هيئة روح!

المنكر الحقيقي لن يختلف عليه عاقلان سويان من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيسعيان لإزالته، فكلنا ينكر مثلاً ما يفعله بعض الشباب في اليوم الوطني من رقص في الشوارع وتكسير للممتلكات وإعاقة للمرور وتحرش بالعائلات، وبالتالي تهديد للأمن والاستقرار، ونطالب بإيقاف هذه الممارسات، بينما هناك أمور أخرى لا تدخل في باب الحرام وإنما ربما تخالف قناعات البعض وعاداتهم، وبالتالي ليس عليهم أن يقبلوا بها لأنفسهم، ولكن ليس لهم الحق أيضاً في إلزام عشرين مليون شخص آخرين بها.