بعد مضي عدة أسابيع على تغريدات الكاتب حمزة كاشغري على موقع (تويتر) التي أساء فيها التعبير فأثار الرأي العام السعودي بدايةً، وأثار تطور قضيته الرأي العام العالمي لاحقا، ممثلا بالمنظمات الحقوقية الدولية.. فإن كل الأنظار موجهة الآن إلى المملكة العربية السعودية التي أصبحت تحت دائرة الضوء.
وعلى الرغم من أن قضية كاشغري كشخص أصبحت الآن بيد الدولة من خلال هيئة التحقيق والادعاء العام، إلا أن تجاوز هذه القضية دون فحص مؤثراتها الجانبية الاجتماعية أمر غير مبرر، فلا يمكن أن ننظر إلى القضية منفصلة عن إفرازاتها ونتائجها على المستوى الاجتماعي، كون هذه الإفرازات هي نتيجة وليست سببا، أما السبب فهو كامن في العمق سابقا لا يمكن تجاهله كمركب سوسيوثقافي.
أخذت القضية أبعادا أكبر من أبعادها الأصلية في وسائل الإعلام الإلكتروني؛ فهي مثل سابقاتها من القضايا كشفت مدى الاحتقان الذي يعانيه المجتمع السعودي، ومدى حجم الأزمة الكامنة في ثقافتنا العربية في المجتمع عبر ثلاثة عناصر رئيسة مترابطة ببعضها بشكل كبير، وأعني بذلك: العنصرية، ووهم التفوق، والازدواجية.
"العنصرية" أمر ملاحظ في كثير من المواقف الفردية والجماعية، وهي أداة فاعلة لنفي الآخر وإقصائه وانتقاصه، بحكم عدم الانتماء إلى الذات؛ ولذا هي العصا الغليظة دوما التي يتم التلويح بها لإنهاء الآخر القريب أو البعيد، فردا أو جماعة، بعيدا عن التفكير بحق الإنسان في العيش على هذه البسيطة متمتعا بكافة حقوقه الأساسية التي تكفل له كرامته الإنسانية.
ففي كل القضايا الاجتماعية والفكرية تتدخل العنصرية كجزء رئيس في النسيج العام كون المجتمع قد نشأ ثقافيا على ذلك؛ لنجد أن "دعوى الجاهلية" المنتنة أعيد إنتاجها في قضية حمزة وغيرها مغلفة بغلاف الدين تارة وبغلاف بالوطنية تارة أخرى! حيث حملت بين طياتها عنصرية بغيضة ليس في الإساءات التي تعرضت لها عائلة حمزة، بل تجاوزت ذلك إلى الإساءة إلى مسلمي تركستان في إقليم كشغر (الصينية حاليا)، فهناك من خلط بين بوذية الصينيين وإسلام أهالي كشغر في محاولة إلى إعادة الأفراد والجماعات إلى أصولهم البعيدة بهدف نفيهم عن مجتمعاتهم وسلب مواطنيتهم.
ومن جهة ثانية، برزت قضية التفوق العرقي على سلّم الأفضلية المجتمعية في القضية ذاتها، مما أوحي بأن "الأفضلية" ليست سوى وهم على أقل تقدير، أو هي من ناحية أخرى كلمة حق يراد بها باطل، لوسم الطرف الآخر بالدونية عرقيا وإقليميا، ولا شك أن وهم الأفضلية من سمات المجتمعات المريضة لأنها مدعاة على التقوقع على الذات المجتمعية وحمل الكراهية المطلقة للآخر مهما كان هذا الآخر قريبا.
أما العنصر الثالث الذي كشفته هذه القضية ومثيلاتها، فهو الامتلاء بـ"الازدواجية" فالمجتمع يدعي الخيرية والفضيلة المطلقة، ويعتبر السلوكيات الشكلية والتصرفات الظاهرية دليلا على عمق هذه الفضيلة، لكنه في الوقت ذاته لا يتورع عن ممارسة أقسى أنواع العنف اللفظي والجسدي بحق من يختلف معه، بغض النظر أكان مخطئا أم لا، وهذا تحقيق للفجور في الخصومة، بل إن الكثير من القضايا التي شهدها المجتمع خلال العقد الماضي، أبرزت عدم جاهزية المجتمع لممارسة التسامح، الذي تتكرر الدعوة إليه في كل حين، فلا يمكن شيوع العدل والحرية والمساواة في مجتمع يسعى إلى شيوع التدمير والانتقام من شخص ما أخطأ، بغض النظر عن حجم خطئه.
وفي كل قضية نرى فيها النزوع الاجتماعي إلى التطرف، وإقحام الدين في المسألة دون مراجعة للنصوص والسير، كحكم البعض على غيبيات لا يمكن الحكم عليها من خلال الجزم بالقول من بعض المعلقين: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم موجودا لفعل كذا وكذا.
هذه القضايا هي بمثابة شواهد اجتماعية على حجم ممارسة العنف الاجتماعي، لدى الفرد والأسرة والمجتمع، لفظيا وعمليا؛ نتيجة لسبب رئيس هو الاحتقان المفضي إلى عدم القدرة على التنفيس عن المكنونات الاجتماعية، المستمدة من ثقافتنا التي لا تقبل غير الانصياع والإذعان ولا أكثر من ذلك.
فالغضب نشاهده في الشارع في موقف بين اثنين، قد لا يكون موقفا فرديا بقدر كونه موقفا معبرا عن عدم قدرة المجتمع عن منح الفرص لذاته ليكون مجتمعا متسامحا، من خلال الإحساس بالآخرين في أقل المواقف وأعنفها.. ولهذا ليس أمام المجتمع سوى تلك المساحات التي توفرها مؤسسات المجتمع المدني للتحرك في مساحات أرحب، وبالتالي صنع آفاق أكثر تلاحما وتسامحا.