مع تداعيات ظاهرة البطالة المتزايدة والأزمات الأخرى المتكررة في سوق الأسهم والقروض البنكية وتجارة الحديد والشعير والأسمنت والحليب والإيجارات والأراضي وغيرها من المواد والاحتياجات الأساسية للمواطن، هذه التداعيات أدت إلى نشوء اعتقاد سائد لدى الشارع بأن التجار يسعون لتحقيق مصالحهم بكل الوسائل المتاحة لهم وعلى حساب المواطن، مع عدم تفاعل وتجاوب الجهات الحكومية مع هذه الأزمات بالشكل المطلوب، واستمرار تعاملهم معها من خلال مفهوم "إدارة الأزمات".

نعم يحق لأي إنسان أن يسعى لتحقيق مصالحه، بل وإنه من الطبيعي أن يقوم بذلك، والتجار ليسوا استثناء، ولكن؟ عندما تكون هناك أطراف مختلفة في موضوع ما مثل السوق التجاري وما يشمله من ضرورة تحديد أسعار التبادل العادلة بين التاجر والمستهلك، والحاجة لتوفير وظائف لأبناء وبنات البلد، وتوفير الجودة اللازمة للمنتجات، وأيضا توفير الحماية اللازمة للمستهلك من الغش وأي تجاوزات من التجار، في مثل هذا الترتيب، تختلف المصالح بين مصالح التجار ومصالح المستهلك، بين رفع السعر وتقليل تكاليف العمالة للأول وتقليل السعر وتوظيف العمالة المحلية للثاني وبرواتب مجزية، مما يتطلب وجود طرف ثالث ينظم ويدير ويراقب هذه التعاملات في هذا السوق، ومن خلال ما يسمى بالسياسات العامة.

في المملكة، هناك عدة أطراف تلعب أدوارا محورية في تنظيم وإدارة مراقبة السوق، من أهمها:

1. وزارة التجارة والصناعة: المنظم والمدير والمراقب لسوق التجارة الداخلية والصناعة والاستيراد والتصدير.

2. وزارة العمل: المنظم والمدير والمراقب لسوق العمل.

3. هيئة الاستثمار الأجنبي.

4. التجار والصناعيون والموزعون.

5. الغرف التجارية والصناعية: تجمع (غير ملزم وغير شامل) للتجار والصناعيين في جميع مناطق ومدن المملكة.

6. المستهلك: المواطن – المواطنة – العائلة، بجميع طبقاتها: الغنية – المتوسطة الدخل – ومنخفضة الدخل.

7. جمعية حماية المستهلك: جمعية مدنية، وما زالت وبعد سنوات غير واضحة المعالم والمرجعية وقلة – أو حتى انعدام – الفاعلية.

8. جميعة حقوق الإنسان.

9. هيئة المواصفات والمقاييس: مراقبة جودة المنتجات والمواد المستوردة.

10. مصلحة الجمارك.

11. الموانئ والمطارات.

12. المجلس الأعلى لحماية المنافسة.

13. الإعلام بجميع أنواعه: المكتوب والمقروء – المرئي والمسموع – المسموع – الإعلام الاجتماعي.

14. جهات حكومية أخرى رقابية مثل ديوان الرقابة العامة ووزارة المالية وغيرها.

من خلال نظرة سريعة على تعدد الأطراف ذات العلاقة بالسوق وتعدد واختلاف مهامها وواجباتها، يتضح لنا بما لا يدع مجالا للشك صعوبة تنظيم وإدارة ومراقبة السوق دون وجود آلية تضمن عمل وتنسيق جميع هذه الأطراف وتحقيق مصالحهم بشكل عادل ومُرضٍ، آخذين في الاعتبار مصلحة الوطن والوطن فقط، فوق جميع المصالح الخاصة لأي فئة كانت سواء تجارا أو مستنفعين أو جماعات ضغط أو مسؤولين.

أيضا من خلال نظرة سريعة على هذا القائمة من اللاعبين في السوق ومن خلال قراءة تاريخية لما حصل في السنوات والعقود السابقة من تداعيات الأزمات التجارية: سوق الأسهم - حديد – شعير – أسمنت – وغيرها، نجد بأن المستفيد دائما هو التاجر، فزيادة الأسعار ظاهرة، وتوظيف عمالة أجنبية رخيصة ورديئة أيضا ظاهرة، وإنتاج واستيراد مواد وسلع رديئة أيضا ظاهرة، كل هذا يثير عددا من التساؤلات من أهمها: هل يمثل التجار جماعات ضغط (وحيدة) مسيطرة في ظل عدم وجود جهة شرعية ونظامية تدافع عن حقوق المستهلك، ما هو دور الجهات الحكومية ومنها وزارة التجارة في الدفاع عن حقوق المستهلك؟ ما هو دور الغرف التجارية في ضبط عمل السوق وعدالته لجميع الأطراف؟ ولماذا حتى الآن لا نرى دورا لجميعة حماية المستهلك؟

ما زالت وزارة التجارة وعلى مدى عقود تتعامل مع كل أزمة بمنهجية وفلسفة "إدارة الأزمات"، وبالتالي فهي تقوم بتأجيل المشكلة لتتفاقم وتتضخم، الأمر الذي يزيد من تكلفة الحل والوقت المطلوب لتنفيذه، وهذه مشكلة تعاني منها الجهات الحكومية، وهي ترجع بالدرجة الأولى لظاهرة العمل الفردي وغياب العمل المؤسساتي، عمل يعتمد على التخطيط من خلال وضع خطة استراتيجية شاملة لجميع القطاعات وليس لكل جهة حكومية على حدة والتنظيم والتنفيذ والمراقبة من خلال مؤشرات أداء واضحة ودقيقة وشفافة وزمنية، مع المحاسبة وبشكل استثنائي يضمن تردد أي تاجر على المخالفة، فمن أمن العقوبة أساء الأدب.

أما التجار والغرف التجارية، فماذا استفاد الوطن منهم؟ في جميع دول العالم، يعمل القطاع العام مع القطاع الخاص معا، يدا بيد، ولتحقيق مصالح مشتركة، فالدولة تمنح التجار والصناعيين عددا من الامتيازات والدعم المالي والإداري مقابل فوائد للوطن! أليس هذا مقبولا ومعقولا! الدولة - والسعودية ليست استثناء - تمنح التجار والصناعيين:

1. قروض طويلة الأجل - دون فوائد – لتمويل ودعم مشاريع التجار والصناعيين من خلال صندوق التنمية الصناعي والبنك الزراعي ووزارة المالية وغيرها، قروض رصدت لها الدولة عشرات المليارات سنويا.

2. أراض بأسعار رمزية لإقامة مبان ومصانع ومستودعات التجار والصناعيين.

3. تفضيل ودعم المنتجات المحلية ودعمها للصادرات.

وفي مقابل كل ذلك ما هي الفوائد التي تحصلنا عليها:

1. انخفاض – وحتى درجة انعدام أحيانا – توظيف أبناء وبنات البلد من قبل القطاع الخاص، فبدلا من ذلك يتم توظيف عمالة أجنبية ذات كفاءة منخفضة وبالملايين على حساب الوطن، ظاهرة تحمل نتائج سلبية على أمن واقتصاد البلد.

2. انخفاض مستوى وجودة المنتجات المحلية مقارنة بالمنتجات الأجنبية ذات الجودة العالية، مع عدم وجود فروقات في الأسعار.

3. عدم حصول الدولة على مداخيل وخصوصا رسوم وضرائب على التصدير، أي عدم وجود صناعة ذات قيمة عالية تنافس في السوق الدولي، وإنما كلها تصب في الاستهلاك المحلي.

أما الغرف التجارية الصناعية، ومع ما تحصل عليه من رسوم ومداخيل مقابل إصدار وتجديد شهادات الانتساب للغرفة، وتوثيق وتصديق الخطابات الصادرة من المؤسسات والشركات التجارية يدفعها المواطن، فكلها لا نعلم المغزى وفائدة وزارة التجارة من إلزام المؤسسات والشركات بدفع رسوم للغرف التجارية، وإلزام المواطنين بدفع الرسوم أيضا! مليارات الريالات سنويا تحصل عليها الغرف، أين تذهب وما هي فائدة الوطن، التاجر والمواطن على حد سواء منها؟

إعادة هيكلة القطاعات الحكومية والعمل على وضع استراتيجية شاملة مع الرقابة والتنفيذ والمحاسبة دون استثناء، آخذين مصلحة المواطن أولا وأخيرا، هو الحل الاستراتيجي للتعامل مع المشاكل الحالية.