أكد الشاعر الموريتاني الشيخ ولد بلعمش أن القصيدة الموريتانية مقبلة على عصر جديد، وكشف في حواره مع "الوطن" عن أسلوبه في الكتابة، وشرح وضعية الشعر في بلد اشتهر بلقب المليون شاعر واكتفى بهذا اللقب دون أن يواكب تطورات القصيدة العربية، وفيما يلي نص الحوار:
عرفت موريتانيا ببلد الشعر والفصاحة إلا أننا لا نجد شاعراً يكون محل إجماع، ماذا ينقص الشعر الموريتاني ليحقق الانتشار في المشرق؟
ظلت الثقافة العربية متأثرة زمناً طويلاً بمحورية بعض الدول العربية، مما أعطى لمبدعي هذه الدول النصيب الأكثر حظا من الضوء، وأدى النشر وتفاعل المثقفين الهائل مع الإبداع إلى سيطرة ظواهر أدبية وفنية على الساحة العربية دون منازع، وإذا استثنينا حالات محدودة فإن تلك ظلت هي السمة الغالبة على دنيا الثقافة العربية، ويُحمد للتطور التكنولوجي تذليله صعاب التواصل الثقافي بين الأقطار العربية مما دفع إلى بداية دخول دول الأطراف - أو الثغور قديما - إلى دائرة الاهتمام من إخوتهم والاحتفاء بهم والتفاعل معهم، وذلك يشكل بحق أملاً جديداً لبداية مساهمة حقيقية في تشكيل الوعي العربي ولعب دور مستحق لأحفاد أولئك الحجاج العلماء الشعراء الشناقطة الذين أورثونا سمعة حسنة يجدر بنا أن نحافظ عليها وأن نثبت أننا حقا جديرون بما وهبتنا من ألقاب وإطراء، وإن كان الشعر الموريتاني ظل في قفصه الجغرافي عقودا طويلة فإنه بدأ مؤخرا بالحضور وبدأ الاهتمام من طرف الإخوة العرب بآدابنا يزداد شيئا فأكثر، وبدأت عدوى الأسئلة الوجودية الكبرى وتلوين لوحة القصيدة تجد طريقها إلى النص الموريتاني، إن حضورا موريتانيا شعريا بدأ في التشكل بقوة وأحس بأن ما كان ينقصنا ليس كثيراً، وبشائر إسهامات أدبية تشرفنا تلوح في الأفق.
الميزة الثقافية لموريتانيا هي تبحّر أهلها في فنون القول حتى سميت ببلاد "المليون شاعر"، لكن لا يبدو المنجز الشعري الموريتاني متناسبا مع دوي هذا اللقب الرائج وصفا لموريتانيا، لماذا مع ما يؤسس لمصداقية هذا اللقب؟
من بين ألف نص في الدنيا لا يمكن أن نصف بالاستثنائية إلا واحدا، ذلك ظني، إن الرائع دائما لا يكون كثير الوفرة، والتوقع على أساس المُتداول يصيبنا دائما بالصدمة، وبالرغم من ذلك حين نقرأ كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط" للشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي نزيل القاهرة، والذي جمع فيه كثيرا من نصوص الشناقطة قبله أو حينها فإننا من دون شك سننبهر بمستوى ثراء وخصوبة الشعر الموريتاني، ولن نكون أقل انبهارا بالجماليات ذاتها عندما نقرأ كتاب "الشعر والشعراء في موريتانيا" للدكتور محمد المختار ولد أباه. إن ما جمعه الكتابان السابقان يثبت بجلاء أن لقب بلاد المليون شاعر كان لقبا مُستحقا ولم يكن مُجاملة، وفي هذه العقود الأخيرة دأب الموريتانيون على قرض الشعر بمستوى قارب الدرجة ذاتها، غير أنه حينها كانت الذائقة العربية قد نحت منحى آخر، وها هم شباب شناقطة جدد يكتوون بنار الحداثة ويتأثرون بمفرداتها ورؤيتها للجمال، إن المنجز الشعري الموريتاني قد لا يكون معلوما أو ذا انتشار، ولذلك أسباب منها قلة النشر وعدم توظيف التقنيات الحديثة في تقديم النص الموريتاني، غير أن تلك الأسباب ليس منها قطعا ذات المنتج أو طبيعته أو مستوى جماله.
كيف تفسر غياب دور نشر فاعلة في البلد وسيادة العوز في أوساط الشعراء الشباب الأكثر إبداعاً؟
أما غياب دور النشر فله سببان، أولا ضعف إمكانات الدولة كي أكون حسن الظن بها، و رأس المال الموريتاني لم يستثمر في الثقافة، وتكاد تلك تكون مشكلة عامة في الوطن العربي، أما نحن شعراء هذا القطر فقد أصبحنا أحسن بكثير، فعندما هجم عصر المادة على ربوعنا كان جهلاء المجتمع فينا من الزاهدين، إن تلك مجرد حلقة من مسلسل طويل قاده الفرانكفونيون العرب في بلادنا، لقد ربطوا الرقي والتحضر بمط الشفتين وهز المنكبين على الطريقة الفرنسية وتبني نمط أخلاق غربي، وليتهم أخذوا ما هو إيجابي من العقل الغربي، تكالب الناس على سدنة الحرف في بلادي وضاعت على الأرصفة عقول شباب مبدع أثخنته جراح الدنيا وفرضت عليه هروبا من ذاته، لكن صبر. وأغلب مُبدعينا وعنادهم أرجع الشعر في بلدي إلى شيء من عافيته وبدأ الناس يعودون سيرتهم الأولى، فالشعر في بلادي فطرة الله التي فطر الناس عليها، بدأ احترام الآخرين للشاعر يعود، بدأت الأجيال تشتاق للجديد، وأبت صحراء شنقيط إلا أن تظل منبع شعر وإلهام.
عشق الموريتانيين للشعر وكثرة تعاطيهم له، ألا يشكل عائقاً أمام الشعراء على اعتبار أن أغلب القراء ناظمون جيدون للشعر ولا ترضيهم إلا درر العطاء الشعري؟
إن ما يضر المبدع حقيقة هو المجاملة، فحينما يحتفي الناس بالنصوص الجميلة، ويعرضون عما دون ذلك، عندها تكون لكثرة تعاطي الشعر نتائج مميزة، وإلا فنكون أسسنا لمنهج معوج في مُقبل أشعارنا.
هل ترى أن الشعر الموريتاني يواكب مختلف التطورات التي تشهدها القصيدة العربية؟ وهل أنت راض عن التجديد والتحديث الشعري في موريتانيا؟
أنا من القائلين بأن القصيدة الموريتانية مُقبلة على عصر جديد، فالحداثة بدأت متأخرة في موريتانيا، وفهمها البعض فهما خاطئا، مؤخرا تحسن التواصل بيننا مع الشعراء العرب بمن فيهم الحداثيون، وتلك فرصة للتأثير والتأثر.
يتفاعل الجمهور مع قصائدك كثيرا، لكن ألا ترى أن القارئ المتخصص لا يرضى عن القصائد الجماهيرية لأنه ينتقد المباشرة فيها؟، وهل تفكر في هذه المعايير حين تكتب أم إنك تكتب القصيدة بإرادة داخلية واستجابة للحظة إبداعية بغض النظر عن نوع الجمهور؟
ما قتل الجمال في حياتنا مثل التنطع، جماهيرية القصيدة تعني قبولها، إنها تبعث على الطمأنينة، المشكلة أننا أحيانا نقول ما لا نعيه ليس عيبا أن تخوض القصيدة في موضوع يهم الناس، بل المهم ما قيمة الذي كتبناه، أليس المتنبي أكبر شاعر عربي على مر التاريخ؟ أليس أكبر شاعر جماهيري؟
لديك قصيدة جميلة عن غزة، هل ترى أن التزام الشاعر الموريتاني بقضايا الأمة في ظل الأحداث الجارية يرضي قناعة الجمهور؟، ولماذا تأخر الموريتانيون عن دعم الثورات بالشعر؟
الشعراء الموريتانيون في معظمهم ملتزمون بقضايا الأمة، لقد كان أكثر ما كتبوه بكاء على القدس وأخواتها، إنهم في غالبيتهم يترجمون مشاعر المواطن العربي، أما الأحداث التي تجري في عالمنا العربي فقد كانوا من أشد الناس اهتماما بها، لقد كتب أمير الشعراء أحمد شوقي لدمشق رائعته:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
وبكل تواضع كتبت قصيدة منذ شهر تقريباً لدمشق أقول فيها:
خذي قلبي فأنت به أحق
وقولي للزمان أنا دمشق
أنا قمر يسافر في غمام
أنا الأوتار والنَّغم الأرق
كتبتُ على جبين الصبح شعري
فللآياتِ من شفتيّ دفق
يخاصم ياسميني حزن ليلي
فأعرف أنه قلق وصدق
أحاول أن أعود إلى شبابي
فيمنعني من الأحلام خنق
كأن جداول الأيام ضاقت
بوهم النبع حين أطلَّ برق
وكيف نحرر الأوطان يوما
إذا الإنسانُ عبد مُستَرق
ذلك مثال على مواكبتنا للحدث العربي دائما، لقد كتبت للإنسان العربي، كتبت لتونس ومصر واليمن وليبيا ودمشق.