كتبت في 12 شوال 1431، الموافق 21 سبتمبر 2010 مقالاً بعنوان "الشمولية في الإسلام.. رهبان بالليل فرسان بالنهار"، وأوضحت في المقال وفصّلت مفهوم الشمولية في الإسلام وكيف أن الله سبحانه أودع الدين الإسلامي كل الأصول اللازمة لتنظيم حياة الفرد والأسرة والمجتمع والأمة، وأوضحت أن كتاب الله مليء بالآيات -وكذلك أحاديث رسول الله- بما لا يفصل بين العقائد والعبادات والأخلاق وبين سائر مناحي الحياة من أمور الحكم والسياسة والقضاء والإدارة والمعاملات وأمور العلاقات الشخصية من خطبة وزواج وطلاق ورضاع.. وأمور المال والاقتصاد من زكاة وبيع وشراء ودَيْن ووصية وغيرها.

وأوضحت أن المرض العضال الذي أصاب هذه الأمة فيما أحسب هو الخلل في الفهم الصحيح لمبدأ الشمولية في الإسلام، والذي نقصد به هنا أن الإسلام كشرع سماوي أراد الحكيم سبحانه له أن يفي بحاجة الإنسان وينظّم له كل شؤون حياته، فوضع له القواعد الكليّة والأصول العامة التي من شأنها أن تستوعب المكان والزمان، ولم يتطرق لجميع جزئيات الحياة وإنما تركها لاجتهادات الإنسان حسب حاجات عصره وفق المقاصد العامة للإسلام، وأما الشؤون الدنيوية البحتة فإنها قد تُركت لاستنباط المسلمين لتطويرها بعلم ودراية كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل: "أنتم أعلم بأمور دنياكم".

وسبب كتابتي في الموضوع ثانية هو أهميته البالغة، حيث إن أعداء الإسلام عندما عجزوا أن يقتلعوا الإسلام من قلوب المسلمين لجأوا إلى حيلة أخرى، وهي أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة وبهذا يذهب ما في الإسلام من نواحي القوة العملية الفاعلة في حياة الناس، وتبقى القشور من الأشكال والمظاهر ولينتهي بنا معنى الإسلام إلى هذه الفكرة المتضائلة في نفوسنا.

وقد بدأت هذه الهجمة الشرسة مباشرة بعد سقوط الخلافة عام 1924 وبعد نفي آخر خلفائها السلطان عبدالمجيد الثاني والتي رثاها أمير الشعراء أحمد شوقي في أبيات مطلعها:

عادَت أَغاني العُرسِ رَجعَ نُواحِ وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ

كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ

ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح

إلى قوله:

ولتشهدن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع سماح

وتحققت مخاوفه، فبعد عام واحد من سقوط الخلافة ولأول مرة في تاريخ الأزهر الشريف يخرج كتاب من شيخ أزهري تولى منصب القضاء الشرعي يزعم فيه أن الإسلام دين لا دولة، وهذا الشيخ هو علي عبد الرازق، ومقولته في كتابه (الإسلام وأصول الحكم). وتم بوسائل عدة اختراق العقل المسلم في ثوابته وعقائده ومقومات سلامته وبقائه، وضعف أمر المسلمين على قدر ما سمحت عقولهم لتقبّل المعنى المتضائل لفكرة الإسلام والحدود الضّيقة التي رضوا أن يحصروا أنفسهم فيها، وبدأ صوت التغريب يدوي عالياً، يبشر أنه لا خلاص إلا من خلال المشروع الحضاري الغربي وأن الإسلام كالنصرانية رسالة روحية.. وتم بذلك فصل الدين عن الحياة.

إن طريق العودة إلى العزّة التي أكرمنا الله بها بالإسلام والتي وصفها عمر بقوله: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"، لن يكون دون إعادة الإسلام إلى الحياة، وإحياء الحياة بالإسلام لن يكون إلا بتطبيق مفهوم الشمولية فيه، وهذا كلام فصّلنا فيه سابقاً ولكن يكمن هناك خطر آخر لا يقل خطراً عن ممارسة المعنى المتضائل لفكرة الإسلام في حدوده الضيقة وفصل شريعته عن الحياة، ألا وهو تقييد أنفسنا بنصوص شرعية لم يقيدنا الله بها، أو إلزام عصرنا بلون عصر لا يتفق معه، فكثير من العلوم والآراء والاجتهادات تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها، فلكل عصر فقهه وظروفه ومسائله، والصحيح أن تبدأ الاجتهادات لكل عصر أولاً من المعين الصافي (الكتاب والسنة).. فتستقي من معين السهولة الأولى، ويُفعّل بذلك الاجتهاد الذي أبقى الإسلامُ بابه مفتوحاً أمام التجديد لمواكبة الظروف التي استحدثها الناس، ولذلك نجد أن الإسلام ركّز على الكلّيات ولم يركّز على الجزئيات إلا بما يخدمها، وكأنه وضع فلسفة التشريع وركّز على القواعد والنظريات، ثم ترك للاجتهاد -المنضبط بهذه الكُليّات والفلسفات، والمحكوم بتلك الثوابت والقواعد- باباً مفتوحاً، ليضمن بذلك مرونة الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، ثم أفسح للاجتهاد النظر في شؤون الحياة الاجتماعية ما لم يسمح به في قواعد وأحكام العبادات، ولذلك يفرّق الفقهاء بين ما هو من قواعد أحكام العبادات وماهو من شؤون الحياة الاجتماعية.

وبتحديد الثوابت وتجديد المتغيرات، تتخلص النصوص التي أسّس عليها الدين –القرآن والسنة– من الجمود، وتتحرّر من حجاب النصوص البشرية والاجتهادات التي كانت نتاج ظروف خاصة، وهكذا تعود الفاعلية الأولى للنصوص المقدسة المعصومة.. ويجد الواقع المعاصر الإجابات على علامات استفهامه، فتنتج إجابات معاصرة وسلفية كذلك.

إن خطر عدم إدراك الفرق بين الثوابت والمتغيرات هو أن ينقلب (التراث) مرجعية تحجب الرؤية للمنابع الفقهية الأصيلة، وينتهي الأمر إلى جمود وتقليد، ونخرج من مصيبة الحدود الضيقة والمعنى المتضائل لفكرة الإسلام وغياب مفهوم الشمولية لنقع في إلزام العصر بلون عصر لا يتفق معه، وفقه لا يواكب حركة الزمان، ويفقد الإسلام بذلك مرونته، وتنقلب محاولاتنا لتطبيق الإسلام الشامل كدين حياة إلى جمود وتقليد، بدلاً من أن يكون حركة تحرير وتجديد.