عندما بدأت مساري الوظيفي في إدارة التحقيقات (بإحدى الجهات الحكومية) علمني أحد أهم أساتذتي (لا أذكر اسمه لأني لم استأذنه) أهم معلومة في عملي حينها: "يا علاء نحن كلنا لا نأكل إلا مالا حلالا، ولكن تعريف الحلال يختلف عند كل واحد منا، فبعض الناس يتسع مفهوم الحلال لديهم ليشمل أي قرش من الممكن أن يدخل جيبهم".
كانت العشرة أشهر التي عملتها في إدارة التحقيقات تلك كافية لأن أعاني من القولون العصبي، وأن أطلب نقلي إلى إدارة أخرى ضمن نطاق الإدارة القانونية، إذ رأيت صورا من "الفساد" تمارس كل يوم على أنها أمر طبيعي واعتيادي، بما في ذلك ما تمارسه بعض الأحيان تلك الإدارة عن قصد أو غير قصد.
أذكر على سبيل المثال أن (رئيسي) مدير التحقيقات حينها قد طلب مني أن "أعطي زملائي فرصة لكي يوقعوا وقتا أبكر من وقت حضورهم في سجل الحضور والانصراف!!" وعندما سألته كيف يريد مني أن أفعل ذلك، أجابني: "عندما تصل متأخرا إلى العمل فاكتب وقتا أبكر بحيث تعطي فرصة لزملائك المتأخرين أن يسجلوا وقتا أبكر ونتلافى الخصم عليهم"، بالنسبة لموظف جديد في منظومة كبيرة تمثل فيها إدارتي القلب النابض والضمير الحي، كان من الصعب جدا أن أقبل طلبه، وكان رفضي الحمد لله سببا في الموافقة على نقلي إلى الإدارة التي صقلت تجربتي القانونية كأفضل ما يكون. طبعا هو لم يكن يقصد بأن يطلب مني التزوير، ولو كنت في إدارة أخرى كان من الممكن أن أستجيب له (ربما!!) حيث إن الأمر كان سيفسر على أنه تعاون مع زملائي في العمل، لا على أنه تزوير في محرر رسمي كما نظرت له من خلال منظوري القانوني حينها.
كنت أرى بعض الموظفين يحصلون على مميزات معينة من قبل بعض الشركات التي تتعامل معها تلك الجهة، وكنت أرى في ذلك فسادا كبيرا، وكانوا هم يرون أنها تحصيل حاصل وتعويض مناسب يحصلون عليه من خلال عملهم في هذا الكيان العملاق. كانت هذه المزايا تقدم بشكل ملبس يسهل على أي إنسان تبريرها لنفسه وقبولها دون حرج. فهي لا تقدم أبدا مقابل الحصول على الخدمة، ولا يتم الاتفاق عليها مسبقا، ولكنها متاحة بشكل دائم أو عند الطلب بحيث لا يمكن أن تربط بعقد أو عمل أو مشروع معين. وعبثا حاولت أن أقنع نفسي حينها أن قبول هذه التسهيلات (لا أقول رشى) لا شيء فيه، لكن بحكم القانون هي عندي رشوة بلا ريب، وهي إن لم تكن فسادا بذاتها فإنها تفتح ألف باب للفساد. هذا فضلا عن التسهيلات التي تقدمها إدارة لأخرى أو أحيانا التعقيدات التي تضعها إدارة أمام أخرى لتحقيق مصالح معينة، وذلك عندي أيضا لا شك أنه من أسوأ أنواع الفساد.
تعريف "الفساد" يومها لم يكن واضحا لدي، ولهذا تخبطت كثيرا وأنا انتقل بين الصور المتباينة لمفهوم "الفساد" دون أن أستطيع أن أصوغ له قاعدة أو أن أحدد له حدودا. وأنا أزعم أن التعريف ما زال مستعصيا على الكثير.
إنني أتلمس أن تعريف الفساد همٌّ يلازم الهيئة، وذلك من خلال متابعة الإعلانات التقليدية الخجولة التي تقوم بها الهيئة من وقت لآخر في صحفنا لتعريف الناس بأن صورا معينة من التصرفات تعتبر فسادا. إن رفع مستوى الوعي لدى الناس بمفهوم الفساد مهم بلا شك، لأنه يتعامل مع المصدر الرئيسي له، فلو صلح الناس لانتهى الفساد، ولكن من المهم جدا أن تقوم الهيئة بعملية البحث والتأصيل والتقنين حتى تتم محاسبة الفاسدين بموجب قانون واضح لا لبس فيه أو العفو عمن يتبين أنه من غير المفسدين بقانون واضح لا لبس فيه.
على الهيئة في إطار قيامها بدورها "الوقائي" أن تضع آليات الوقاية من الفساد المؤسسي قبل الفساد الفردي. على الهيئة أيضا أن تتلافى ـ عند وضع هذه الآليات ـ الأسلوب المعتاد والتقليدي المتبع بتعقيد إجراءات بدء التنفيذ واتخاذ القرار، بل الأفضل تسهيل الإجراء وتفويض الصلاحية مع وضع آليات ومعايير شفافية دورية صارمة تغني عن ذلك.
فأنا (المواطن) لا يهمني كيف اتخذ المسؤول قراره، ولكن يهمني أن يأخذ القرار الصحيح في الوقت الصحيح، لأن تأخير اتخاذ القرار لسبب بيروقراطي بحت حتى يتم تأخير مصلحة المواطن فساد أكبر.
يهمني أنا (المواطن) أن أقرأ لأي مسؤول قبل تعيينه إقرار ذمته المالية قبل التعيين ويهمني أن أطلع عليه عند خروجه من الوزارة.
يهمني أنا (المواطن) أن تقوم كل وزارة بإعلان خطتها لصرف هذه الميزانيات الضخمة التي تصرف لها، وتعلن في نهاية العام ما يشبه قائمة الأرباح والخسائر، لكن بشأن المشاريع ونسبة المنجز منها.
يهمني أنا (المواطن) أن يوضع أمامي بحكم مواطنتي مقياس يومي يشبه نظام "تداول" عن نسبة إنجاز المشاريع مقارنة بالنسبة المتوقعة أو عدد الأيام المتبقية. يهمني أنا (المواطن) أن يعلم المسؤول، صغيرا كان أو وزيرا، أن منصبه "وزر" لن يسقط عنه حتى يؤدي أمانته، وأن كل الذي بينه وبيني أنا المواطن العادي زجاج بلوري شفاف أراه من خلاله وأحكم على أدائه.
وللحديث بقية!
تغريدة: الفساد! كائن أسطوري يعيش بيننا، يأكل قوتنا وينهش لحومنا ولا نراه. نحن جزء منه دون أن نعلم، وهو نتاج مجموع تصرفاتنا.