يرشق الليل صدر الفجر بآخر نجمة ساهمة. كانت تتدثر برحيق الغيوم المدفونة خلف التلال الخضراء. على حافة الصبح تفك القرية ضفائرها. وتنحني للضوء المتهدج والطالع كالأجنة بعد أن غسلت الحناجر أفياءها بطهر الآيات والأوراد. الطيور تمرق أمام النافذة كالمصابيح خارجة من المأوى الليلي. ذاهبة إلى الينبوع الدافق في حلق الوادي. الراعي يغني ملء المكان ليروي عطش القلب. وليحلم بالمطر الصيفي. ترتعش الأرض. وتعانق أقداماً منقوعة بوسائد الطين. ومفارش الحصى. الساقية تبوح بشدوها كشبابة يسكنها بقايا نعاس وهي تثرثر بالماء لتروض سنبلة خلعت قلادتها فوق أكتاف الريح. الحقول تغفو داخل فستانها الوردي فتغرق القرية في ديمة من العطر وبياض الحياة. العجوز يمد أصابعه الواهنة للسماء. يشير إلى غيمة حبلى تحتشد فوق رؤوس الجبال. يهطل المطر فتهطل المسرات. ويهتز التراب المعتق بالشيح والبعيثران، طرقات القرية يدعكها الصمت بعد أن خفتت أقدام السابلة. وترنحت أنفاس العابرين. رعشة الريح. قطرات الماء المنسرب من السقف الشجري. تمتمات الساهرين حول موقد النار. صراخ الرحى وهي تفتق حبوب القمح وما جادت به الأرض. استفاقة غدير تورق فيه غصون الحناء. حكايا من لحم الذاكرة الملأى بأفراح الأرض وأعياد الحصاد. وفجأة كهسيس الغابة يئن ذلك العجوز كنجم غادره الضوء. حين حمله واقتلعه أبناؤه كالنطفة من جسد الأم وهو غارق في ذهوله بعد أن عاش في مخبئه الرغيد. ليسكنوه البيوت المعلبة والمسورة كزنزانة. هناك عاش العزلة. ودهمته الوحشة وغبار الحضارة المكسوة برماد الصخب. ولهاث الكائنات. كان وراء الأبواب يصغي لقرع الأجراس. وصرير المصاعد. وموت الكلام المبعثر على شفاه البشر. تهاوى فوق فراشه كالعود المحروق. وانفرطت عرى أحزانه. حاول أن يهرب من وحدته. ليذوب في صمته كالهزيع الأخير من الليل. وكجمرة الموقد المحتدمة. تدحرجت عيناه إلى الشاشة فأبصر مغنياً يتقيأ القبح. ودمامة الطرب. طلب جرعة ماء فجاءت في علبة طعمها كدموع الأفاعي. انتظر الفجر فلم يعرف من أين يأتي بسحنته الداكنة. تململ. ضاق. عصره السأم والغربة وانفرط القلب. وتيبست الحواس. وترنح الجسد كزهرة الغروب. دب على الأرض فكاد يسقط فقدماه لم تتصالح مع ترف المفارش وبرودة السيراميك. سمع متحدثاً في الشاشة يكاد فكه يلامس الطاولة وهو يتقعر ويتعثر في مخارج الحروف يقول: أيها المشاهدون لقد صدق طاغور حين قال : ( الحضارة تكبر والإنسان يصغر ) هز رأسه وقال: يبدو أن أبناء هذا الطاغور قد فعلوا فيه ما فعل بي أبنائي!