حين تمر أمام مبنى الهيئة العامة للغذاء والدواء الواقع على أحد الشوارع الحيوية في العاصمة الرياض، لن تتصور أنه داخل هذا المبنى تتم أكبر عمليات الرقابة والتحقق من سلامة أهم العوامل التي تؤثر في حياتنا وفي صحتنا اليومية، داخل المبنى تجد نفسك تتوسط ورشة صاخبة من العمل والبحث والمعامل والاتصال اليومي بالجمهور، والاتصال بالجهات العالمية ذات النشاط المماثل، والتواصل مع وحدات الرقابة في كل المنافذ الحدودية في المملكة، إنها الهيئة التي وإن تأخر إنشاؤها في واقعنا السعودي إلا أنها استطاعت في فترة وجيزة أن تتدارك وتعوض كل القصور الذي كان يحيط بالسلامة والرقابة على الغذاء والدواء.

في العام 1424 تم إنشاء الهيئة العامة للغذاء والدواء بموجب قرار من مجلس الوزراء، أبرز النقاط التي تسترعي الانتباه في القرار التركيز على أن الهيئة مستقلة وترتبط مباشرة بمجلس الوزراء، وهو ما يحقق لها الاستقلالية الحقيقية التي تحتاج إليها كل مؤسسة تقوم بدور رقابي، خاصة أن سلامة الغذاء والدواء والمستحضرات والمنتجات الإلكترونية والصحية وغيرها مما يلامس حياة الإنسان تقتضي تقاطعا مع مؤسسات وجهات حكومية قائمة، مما يعني أن تحقيق الاستقلالية لا يتم إلا بتخليصها من أن تقع تحت سيطرة جهاز ما، ومن خلال ربطها بمجلس الوزراء.

بدأت الهيئة بتنظيم أفكارها إذ تم توزيع مراحل عملها إلى مرحلتين، امتدت المرحلة الأولى لمدة 5 سنوات تمكنت فيها الهيئة أن تضع الأسس الإجرائية والتنظيمية والرقابة الإجرائية والتقييسية لتنطلق إلى المرحلة الثانية التي تباشر فيها الإجراءات التنفيذية.

في أوروبا وفي الولايات المتحدة تعد الرقابة على الغذاء والدواء من أبرز وأهم القطاعات وأكثرها تأثيرا في الحياة العامة، بل وفي السياسات القومية، ويمثل نجاحها دليلا على أنها تقع خارج نطاقات الإغراء والتوازنات التي تقدمها الشركات الكبرى في مجال الغذاء والدواء، واللتان تمثلان أبرز الصناعات العالمية وأكثرها تمددا واتساعا، وتسعى تلك الهيئة لتكون الدليل الوطني الفعلي للمواطنين والحارس الحقيقي لسلامتهم وصحتهم، والمرجع الفعلي الذي يواجه كل الأخطار والعوامل التي قد تؤثر في سلامة الغذاء والدواء. يبدو أن الهيئة العامة للغذاء والدواء في السعودية قد استفادت للغاية من تلك التجارب العالمية، وتعلمت الكثير من كل النماذج العالمية الناجحة في مثل هذه المؤسسات لتقدم قطاعا قادرا على تنفيذ دوره الفعلي، فلقد استطاعت الهيئة الآن أن تحكم رقابتها الفعلية على القضايا المتعلقة بسلامة الغذاء والدواء، في الوقت الذي تتضاعف فيه الحاجة إلى مثل هذا الجهاز خاصة مع نشاط واتساع الثقافة الاستهلاكية لدى كل شرائح المجتمع، وهي ثقافة تجعل من المنتجات الغذائية مواد ملازمة لحياتنا اليومية، واتساع حجم العرض وتنوعه بالمقابل على مستوى الأغذية والأدوية، يؤكد بالفعل أن وجود جهاز كالهيئة يمثل واجبا وطنيا وتنظيميا. لا تتوقف طموحات الهيئة عند الرقابة على الغذاء والدواء، وتأكيد واقع سليم وصحي لأبناء الوطن، بل أضحت الهيئة جزءا من المشهد العالمي في هذا الجانب، ذلك أن النجاح الحقيقي ليس في تقليد الآخرين، بل بالانطلاق من النقطة التي وصلوا إليها. تأكيد تلك المكانة العالمية للهيئة يمكن قراءته في المؤتمر العالمي الأخير الذي عقدته الهيئة: الرقابة على الغذاء الحلال. إذ يمثل المؤتمر حدثا يؤكد أولا دور المملكة ومرجعيتها الإسلامية لا على المستوى الشعائري فقط، بل على مستوى إدارة قضايا المسلمين عبر العالم، وفتح نافذة للبحث العلمي لتمكين هذه الصناعة العالمية، فلقد تحولت قضية (الحلال) في الغذاء إلى صناعة عالمية تدير رؤوس أموال ضخمة، وتنتشر في كل دول العالم، والأبحاث والدراسات والعدد الهائل من الباحثين الذين استضافهم المؤتمر كلها تشير إلى الأهمية الكبرى لوجود مرجع حقيقي لهذه الصناعة.

تواصل الهيئة عملها المستمر لتدخل في شراكة حقيقية مع المجتمع، وذلك بتكثيف حضورها الإعلامي والتوعوي عبر مختلف الوسائل والأدوات، لأن سلامة الغذاء والدواء لا ترتبط بالرقابة فقط، لكنها تتطلب مزيدا من الوعي. يبدو أن معالي الدكتور محمد الكنهل الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للغذاء والدواء سيظل يواصل عادته التي لا يحبها الصحفيون، وهي التحاشي المستمر لفلاشات الكاميرات، ورغم خبرته الطويلة ودوره التأسيسي والتطويري والعلمي في الهيئة إلا أنه يركز في حديثه جيدا على الابتعاد الطبيعي وغير المتكلف عن دوره، وينسب كل نجاح في الهيئة إلى الهيئة. يكرر الدكتور الكنهل اعتزازه الواسع بالطاقات الشابة التي تعمل في الهيئة، وتبدو على ملامحه علامات الفخر وهو يشير إلى أن الشباب السعودي هو الأكثر تأثيرا وعملا في الهيئة، يتحدث عن قصص تشير إلى كثير من المواجهات التي تدخلها الهيئة مع الشركات والمصانع المحلية والعالمية المختصة بالغذاء والدواء، لكن لدى الدكتور الكنهل جهة واحدة يعلن استعداده لأن يدخل في مجابهة دائمة من أجلها وهي صحة الإنسان السعودي وسلامته.