التشبيه الأقرب لهذا الفرق بين العقليتين تجلت لي في المغرب بين نوعين من الشباب، الأولى الناشطة في منظومة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، والثانية مهتمة أكثر بالنقد الذاتي للتراث. والصنف الثاني اجتمعت بهم في أغادير فأعجبوني جدا.
وتبيان ذلك أن حواف أوروبا والاحتكاك بالفكر الغربي فرض تحديا خاصا على العقلية الإسلامية التي تحتك به، ومحاولة إعادة التوازن لهجوم صاعق؛ فولد الاتجاه الأول، الذي يقول إن ماعندي صحيح بل وما أتيتم به هو تأكيد لما عندي، وهو شعور مخدر لذيذ، ألا يبدل موقفه بل يتشبث به أكثر فليس من جديد، وهي البنية الدفاعية، وبذلك يبقى العالم الإسلامي بين حركتين بدون جدوى، عدم الاستفادة من التغيرات حوله إلا ماكان لابد منه من بنية تحتية من سيارة وطيارة وكمبيوتر، بل والمضي إلى تأكيد أحقية ما جاء به الغرب على نحو غير مباشر بدون نقده وهي هزيمة أخرى مضاعفة. وهو يذكر بمقولة ابن خلدون عن اعتقاد المغلوب في كمال الغالب.
أما العقلية النقدية فهي تلك التي تعيد النظر في التراث ولماذا تعطل العالم الإسلامي كل هذه الفترة؟ وما زال يطن مثل ذبابة في زجاجة مفتوحة العنق، بدون القدرة على الخروج. على حد تعبير الفيلسوف فتجنشتاين.
لقد جاءني وحي هذه الفكرة وهذه المصطلحات وهي في ذهني أشد ما تكون من التألق في الحمام في مدينة الجديدة على شاطئ الأطلسي.
إن موضوع المعجزة استفدت فيه من مصادر شتى، أذكر منها الغزالي المصري رحمة الله عليه، حين ذكر أن المعجزة محدودة الزمان والمكان، ومنها مثلا معجزة انشقاق البحر؛ فقد رآها من كان مع موسى، ولم يرها أحد بعد ذلك، وهي نفس الشيء بالنسبة لعيسى بن مريم الذي كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فقد رآه جيل خاص من عدد محدود من الناس، ومنه جاء إصرار القرآن أنه لن يأتي بالمعجزات، فقد جاءت وكذب بها الأولون وما نرسل بالآيات إلا تخويفا.
بل يقول القرآن إن السماء لو فتحت فظلوا فيها يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون. ولذا فالإعجاز العلمي لن يجعل الكافر مؤمنا، ولن يزيد إيمان المؤمنين، فقد سلموا وارتاحوا لقناعاتهم.
وجماعة الإعجاز العلمي الذي بدؤوه بالقرآن ثم ثنوا بالسنة، وهذه إشكالية جديدة، يجتمعون حاليا في كل مكان، من أجل إثبات أن الطب الغربي والشرقي، وفتوحات العالم الذري، وكشوفات الكوسمولوجيا، جاءت بمعلومات سبق فيها القرآن والسنة؟
وبالطبع فهذا الاتجاه غير صحيح ولا يؤدي لخير، فالقرآن ليس كتاب فلك ولا ديوان شعر، وهو ليس مخبرا للكيمياء ولا مرصدا فلكيا، بل كتاب نور وهداية قبل كل شيء.
ومشكلتنا عند المسلم الحالي ليس أن يؤمن، بل أن يكون مؤمنا فعالا وليس كسولا كلاًّ أينما توجهه لا يأت بخير..
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.