إذا كنت سعودياً فلا بد أنك قد لاحظت وأنت ترتاد أحد المجالس في أحد البيوتات أن الجالسين يتحدثون.. ثم يصمتون برهة ثم يتحدثون ثم يلتقطون أنفاسهم للحظات يرتشفون خلالها سكبات من الشاي وبعدها يتحدثون.. ويدخل معهم في النقاش كل من يفد ولو متأخراً.. وتراهم ينتقلون من حديث أشبعوه سلخاً ومسخاً إلى موضوع آخر لا يمت لما قبله بأي صلة ويبدؤون في تداول الكلام من طرف لآخر ومن فرد لفرد ومن مؤكدٍ إلى مشكك ومن مثبت إلى نافٍ ومن رصينٍ متزنٍ.. إلى لجوجٍ ومرجوج.. ومن واحدٍ يعرف إلى آخر يهرف.. وسترى أن من لديه المعرفة في موضوع النقاش هو أقل المتحدثين فيما يخصه.. كما سترى أن من لا يعرف شيئاً في الموضوع المطروح للنقاش حتى لو تحرى الصمت فإنه يخشى أن يوصم بالجهل في مجلس كل الذين فيه يدلون بآرائهم ويجزمون بصحة أقوالهم فإذا قدر لك دخول أحد هذه المجالس فلا تستغرب أن تجد كل الموجودين يتطارحون النقاش في كل القضايا الصغيرة والكبيرة.. اليسيرة والمستعصية التاريخية والراهنة.. المحلية والدولية.. يفتون في كل شيء.. ويعرفون عن كل شيء.. يناقشون في السياسي ويجادلون في الدين.. ويشككون في العلمي المجرب.. ويفصلون في أسباب الأزمة الاقتصادية وغوامض البورصة.. يحذرك أحدهم من الأسهم وينصحك بالعقار.. ويحذرك الآخر من العقار الذي يشرف على حافة الهبوط ويدعوك لسوق الأسهم التي تعاود الإقلاع.

فليس في المجلس السعودي إيمان بالمتخصص ولو كان حاضراً فلا بد أن تتم مجادلته وربما تخطئته وربما تكذيبه . يعلجون الحكي ومصدرهم: يقولون.. وسمعت.. وأظن.. يحللون.. ويحرمون.. يجوزون مكروهاً.. وينهون عن مباح.. يفتون في الأصول والأركان وفي الكبائر واللمم بعضهم لا يحفظ حديثاً صحيحاً ولا يستقيم عنده نطق آية كريمة يخرجون من الفتوى الدينية إلى أحوال الطقس ومؤشرات الأمطار الـ تأتي ولا تأتي.. و يعرجون على فلان المسؤول وأن كرسي الوظيفة أكبر من قدراته.. ويبدؤون في نبش سير الناس بالهمز واللمز فإذا أغلقوا هذا الملف فسترى أن غيمة من الإحباط تغشى هذا المجلس بسبب الوصف السلبي لكل شيء ولن تجد بقعة ضوء أو لمسة تفاؤل تشيع في نفسك الثقة والطمأنينة.

هؤلاء هم المحبطون المثبطون الذين يشيعون القنوط ويبثون اليأس ورصيدهم من المعرفة لا يعدو الإفتاء في كل شيء والاتكاء على الإشاعة.

إذا قدر لك أن تدخل مثل هذه المجالس أو الاستراحات فستجد أن الجميع يعرفون المعرفة ويفهمون الفهم ويفتون الفتوى ويتخصصون في كل حقل، يتحدثون في الثقافة، وثقب الأوزون، ويحذرونك من بعض الأدوية، وينصحونك بالأعشاب، يحددون لك أفضل الأجهزة الإلكترونية حتى قبل أن تنزل للأسواق، يفسرون لك أحلامك.. ويوجهون لك طريقة حياتك.. بعضهم يتحدثون عن الفضيلة ولا يطبقونها.. ويتكلمون في مزايا النظام ويخترقونه.. يذمون الواسطة ويبحثون عنها في غدهم.. يتحدثون عن فضائل الانضباط والنظافة والوقوف في الطابور وربط الحزام في الخارج وهم من لا يطبق ذلك في الداخل..

إذا قدر لك أنك متخصص في حقل محدد ووجدت في المجلس أن أحدهم قد تطاول على تخصصك وقيمتك المعرفية فلا تبتئس لأن المجلس السعودي لا يريد أن يعطي القوس باريها فكلهم جاهز لأن "يقلط" في نقاش أي موضوع وكل منهم لديه القدرة على تبهير الكلام بكل المشوقات والمشهيات التي تروق للسامع حتى ولو كانت هذه البهارات إنما تغطي عيوب الطبخة.

بقي أن أقول: إن جذور هذه العادة إنما مردها - فيما مضى - غياب المعلومة وترك الناس نهباًً للإشاعات والاجتهادات والقيل والقال ولاشك أن خروج المعلومة من مظانها الحقيقية ومصادرها الموثوقة واستباقها إلى العلن أفضل من ترك الفرصة للمرجفين المغرمين بتنصب رؤوس المجالس واقتعاد كرسي الإفتاء بالمعلن وغير المعلن.. الغامض والواضح.. الخاص والعام.

وأخيراً؛ إن قدر لك حضور مثل هذه المجالس فتمسك بالتخصص ولا تخجل في مجلس كل من فيه يدعون المعرفة أن يكون شعارك: لا أعرف وأن يكون صمتك بصمتك، وأن يكون برهانك: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). واعلم أن المعلم صلى الله عليه وسلم قد نهى عن القيل والقال كما في الحديث الشريف: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بما سمع".