هل كانت قضية التخلف العلمي مطروحة بشكل أساسي في الخطاب الثقافي العربي؟ نتحدث هنا عن خليط متنوع من الفاعلين في الثقافية العربية وإذا حصرنا الحديث في هذه النقطة عن الثقافة العربية المعاصرة، سنجد أن الخطاب الثقافي العربي خصوصا في خطوطه اليسارية والقومية والإسلامية لم يعط لهذه القضية درجة الأولوية في مقابل قضايا مثل الوحدة والعدالة الاجتماعية ودولة الخلافة المنتظرة. في المقابل نجد أن القضية العلمية كان لها حضور أكبر داخل الخطاب الليبرالي التنويري ويمكن أن نجعل من فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود أمثلة واضحة عل هذا التوجه. حيث خصص كل من الكاتبين اهتماما كبيرا بالقضية العلمية. فالأول ألّف كتابا شهيرا بعنوان "التفكير العلمي" سنة 1977 جعل فيه من قضية التفكير العلمي قضية الساعة في الثقافة العربية كما ترجم زكريا عددا كبيرا من الكتب في هذا الاتجاه من أبرزها كتاب "نشأة الفلسفة العلمية" لفيلسوف العلم الشهير هانز رايشنباخ كما أننا نجد هذه القضية حاضرة لديه في عدد كبير من مقالاته ومحاضراته. أما د. زكي نجيب محمود فيلسوف الوضعية في السياق العربي فمن يقرأ له يجد أن مشكلة التفكير العلمية أساسية في تشخيصه للمشكلة العربية العامة. اهتم محمود بهذه القضية تأليفا وترجمة. أما في التأليف فنجدها حاضرة في كتابه الأساسي خرافة الميتافيزيقيا أو موقف من الميتافيزيقيا كما نعثر عليها في كتبه "المعقول واللامعقول في تراثنا العربي" و"تجديد الفكر العربي" و "في حياتنا العقلية" وغيرها من الكتب كما ترجم عددا كبيرا من المؤلفات في المجال العلمي مثل ترجماته لديفد هيوم وبرتراند راسل وكتاب "منطق البحث العلمي" لديوي وغيرها من الكتب.
حضرت هذه القضية كأولوية في طرح هؤلاء المفكرين وكانت عملية الإصلاح والتنوير تنطلق تحديدا من هذا الاتجاه. لكن هذا التيار على أهميته كان في موقف فاعلية أضعف من غيره لأسباب سياسية على الأقل باعتبار أن الحكومات العربية المتتالية كانت شديدة البعد عنه. في المقابل همّش الطرح الثقافي العربي القومي واليساري والإسلامي هذه القضية ولم تشكل له أهمية أولوية مما غيّب هذه القضية عن الوعي العام وعن قضايا التعليم كما سنرى في الحديث اللاحق عن العلم في المؤسسة التعليمية العربية.
في الساحة المحلية السعودية نلاحظ بكل جلاء غياب هذه القضية عن الطرح الثقافي بشكل شبه كامل. ففي تيار الحداثة المحلي لم تحضر هذه القضية في الطرح الثقافي الخاص. ولو قمنا بإحصاء بسيط ومقارن للاهتمام بهذه القضية في مقابل قضايا الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي فإن الصورة ستكون أوضح بشكل كبير. كما لو أخذنا النشاط في الأندية الأدبية (المساحة الثقافية شبه الوحيدة للطرح الفكري) لوجدنا أن الصورة أوضح ولعل هذا الخلل في مجمل نشاطات الأندية الأدبية في السعودية يتأتى من ضعف الاهتمام بالقضايا الفكرية أساسا حيث لا تزال تحظى بطرح محدود جدا. وإن كانت الأمور بدأت تتغير مع الحراك الفكري الذي تلا أحداث الإرهاب المحلية والعالمية. فمنذ الحادي عشر من سبتمبر والقضايا الفكرية يزداد معدل الاهتمام بها وإن كان غالبها يصب في اتجاه النقاش الفكري للتطرف الديني. أما التأسيس الفلسفي لخطاب عقلاني يقوم على أسس علمية فلا يزال في بداياته البسيطة جدا خصوصا في ظل إحجام المتخصصين في الكليات العلمية عن الدخول في الجدل الفكري. علاقة أخرى جوهرية لفهم أزمة العلم هي علاقة العلم بالمؤسسة الاقتصادية فمنذ البداية والاستثمار الاقتصادي محفز كبير للعلم بل ومؤثر في تحديد توجهاته أيضا. والرابط هنا هو إنتاجية العلم فقدرة العلم على الإنتاج هي التي جعلت منه مجالا اقتصاديا كبيرا. ومن هنا يمكن أن نسجل علاقة مباشرة بين الاقتصاد القائم على الإنتاج والعلم. ومباشرة يحضر أمامنا واقع الاقتصاد الريعي العربي وعلاقته بالعلم. الاقتصاد الريعي هو اقتصاد غير منتج باعتبار أنه يقوم على ريع بيع مواد خام وصرف محصول هذا البيع دون الحاجة إلى إنتاج شيء. ولذا نجد أن الدول ذات الاحتياط الكبير من الثروات الخام كالبترول هي الأقل شعورا بالحاجة للتصنيع والإنتاج. وبهذا الوضع فإن الحاجة للعلم تبقى ثانوية جدا. يقول رشدي راشد في هذا السياق: "إن قضية تقييم عملية التقدم والتخلف في المجتمعات تتم على عدة مستويات في الوقت نفسه، أولا على مستوى القوة الإنتاجية (وليس القوة المعرفية) القوة الإنتاجية مرتبطة أيضا بأبحاث تطبيقية في العلم والاختراع, هذه الأبحاث تسبق بأبحاث نظرية ضخمة حتى لا تصبح مجرد مقلد, تشتري الاختراع من دولة المنشأ وتحاول تطبيقه, وهو ما لا يوفره الاقتصاد الريعي, مع قيم استهلاكية أساسا, فأين سيكون التقدم, لو أخذنا أي مجتمع من المجتمعات الغربية التقليدية فلن نجد منها أي مجتمع يقوم على الاستهلاك والاقتصاد الريعي, إلا هذا النوع من المجتمعات في الوطن العربي, لأن الاقتصاد الريعي يهيئ المناخ لفساد ضخم بكل أشكاله, وعدم الجدية حتى في النظر إلي المستقبل". هذا النوع من الاقتصاد يعتبر عقبة في وجه تقدم العلم وتطوره باعتبار أن الاستثمار الاقتصادي للعلم هو ضمانة هذا التقدم والتأثير. يساعد هذا النظام الاقتصادي نوع سيطرة الأنظمة الفكرية ما قبل العلمية. والسؤال الذي يفرضه هذا التنظير هو هل سيؤثر الانفتاح الاقتصادي العالمي اليوم ونظام السوق الحر المفتوح بلا حدود على هذه الوضعية القائمة. شخصيا لا أرى إمكانية كبيرة لهذا الاحتمال باعتبار أن هذا الانفتاح الحالي هو مجرد عملية توسيع للأسواق القائمة ولا يترتب عليه تغيير نوعي في الاقتصادات المختلفة خصوصا الاقتصاد الريعي الذي يتأسس على قيم استهلاك أساسية تتعزز مع انفتاح السوق لا أكثر. الإشكالية الحقيقية ستبقى أن العلم لا يوجد إلا في ارتباط مباشر مع معادلة الإنتاج وحاجة السوق وهذا ما يبقى مفقودا حتى الآن.