لم تكن مجرد ليلة عابرة، رغم ابتعادها عن أضواء الإعلام وفلاشات الصحافة كما اعتادت صاحبة الحفل التي لا تبحث أبدا عن "التطبيل الإعلامي" في ظل تفانيها لسنوات طويلة. إنها تُبهرك بحسّها الثقافي الرفيع وتواضعها الراقي، ولهذا كانت تلك ليلة كنافذة مشرعة تُطل بنا على تفاصيل الجمال والتاريخ والحياة في احتفالها بمرور 17 سنة على إنشاء دارتها، "دارة صفية بن زقر"، ابنة حارة الشام بجدة القديمة والفنانة التشكيلية الرائدة التي ساهمت بتفانٍ في تأسيس الحركة التشكيلية السعودية. فمنذ إقامتها معرضها الشخصي الأول عام 1968م، وحتى هذه اللحظة ولما يقارب 45 عاما لم ترتح صفية أبدا خلال مسيرتها الطويلة وسنوات عمرها في حفظ التراث الحجازي بتفاصيل عاداته وتقاليده عبر لوحاتها الفنية التي ترفض بيعها، لتجعلها بين يد زوار دارتها، بجانب جمعها لعدد من المقتنيات التراثية عن تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة في جدة القديمة التي ولدت فيها عام 1940.

وصفية ابنة حارة الشام التي غادرتها وهي في السابعة من عمرها إلى القاهرة، لم تُنسها سنوات اغترابها بالقاهرة لـ16 سنة ومن ثم لندن لإكمال دراستها في الفنون التي وجدتها وسيلة لرسالتها الإنسانية كي تحفظ رائحة جدة القديمة وخشب رواشينها وبيوتها وأزقتها، بل ووجوه ناسها، رجالا ونساء وصغارا، كل ذلك حملته في ذاكرتها مع رائحة عرائسها القماشية حين غادرتها، وفور عودتها لحارتها، كانت صدمة المفاجأة كبيرة، فجدة القديمة التي تركتها لم تكن التي غادرتها منذ عقدين، لقد ارتحل أهلها منها بغية حياة جديدة حملتهم عليها طفرة التغيير، الأمر الذي جعلها تشعر بمسؤوليتها التاريخية كفنانة مرهفة الإحساس تخاف على ضياع ما تبقى منها، ولهذا حملت كاميرتها، وأخذت تصور كل شيء فيها كي تحفظه في الضوء، ثم نقلته عبر ريشتها وألوانها إلى لوحاتها التي جمعتها في دارتها، هذه الدارة التي صممتها في طراز فني فاخر، لتحوي على مرسمها ولوحاتها والمقتنيات التراثية التي ظلّت تجمعها لسنوات طويلة بجانب مكتبتها الشخصية الثرية، وأيضا المنتدى الثقافي الشهري الذي تُقيم فيه محاضرات عن الأدب والفن التشكيلي للمثقفات، فهي كما أكدت الصديقة الدكتورة لمياء باعشن خلال كلمتها بالحفل، أول سيدة في جدة تُؤسس صالونا ثقافيا في بيتها، وقد حولته لدارتها، ثم جعلت كل ذلك بين أيدي زائري "الدارة" من المتذوقين والباحثين في مواعيد محددة وبالمجان دون أي رسوم، وليس ذلك فقط، بل صاحبة الدارة حولتها أيضا إلى ورش فنية لتعليم الأطفال والكبار فنون الرسم واللون تدعمها بالمسابقات الفنية والأدبية.

بصدق، هذه المساحة لا تفي أبدا بمن وهبت حياتها وفنها وإنسانيتها ومالها الخاص دون ضجيج إعلامي أو صخب ثقافي، فهي لم تعرف سوى العطاء خدمة لوطنها حتى قدمت "الدارة" هدية ثقافية وفنية لمدينة جدة، دون أي مقابل، إنها باختصار، إنسانة عظيمة بحق.