نساء منقبات يفوق عددهن الأربعين يكتسين السواد لا يُرى منهن سوى أعينهن من خلف النقاب رغم أنهن في قسم نسائيٍ بحت، الحديث بينهن يكاد يكون معدوماً وفي حال رغبت إحداهن بالحديث مع من تجاورها فلغة الإشارة هي الآمن لهما لعدم معرفة إحداهما بالأخرى وإن تطور الأمر فلا يتعدى ذلك همسات خجولة.
أولئك نسوة قدر الله لبعضهن أن يصبن بالسرطان وأخريات مشتبه بإصاباتهن والبعض الآخر حضرن لمركز طيبه للكشف المبكر عن السرطان وأمراض الدم والأورام بالمدينة المنورة ولكن خشيتهن من أن يعلم الآخرون بحضورهن لهذا المكان أو أن يعرف أحد إصابتهن بالمرض مما قد يضع عثرة في طريق الخُطّاب لبناتهن فالتخفي كان وسيلتهن للابتعاد عن همسات ولمزات المجتمع وذلك على طريقتهن الخاصة التي اتفقن عليها وهي التزام الصمت وارتداء العباءة والنقاب داخل المركز.
زارت "الوطن" المركز في وقت كانت فيه صالة الانتظار تكتظ بالمراجعات والزائرات، ولكن ما أن علمن أنهن في حضرة الصحافة حتى سرعان ما اختفين، ولم يتبق سوى سيدتين بادرتا بابتسامه أمل ارتسمت على محياهما رغبة منهما في توعية نساء المدينة المنورة - التي أكدت دراسات زيادة نسبة المرضى المصابين في المدينة بالسرطان 2% عن الإحصائيات العالمية – وعدم الهرب من الكشف خشية أن تكون النتيجة "مصابة"، وفتحت الشقيقتان ميرفت ومارية خادم حسين قلبيهما لـ"الوطن" وسردتا معاناة جدتهما الثمانينية مع المرض ومرافقتهما لها طيلة 11عاماً.
تتحاشى أسرتها
قالت ميرفت إن جدتها البالغة من العمر 89 عاماً مصابة منذ 11عاماً بسرطان الدم الذي تم اكتشافه طبيا عن طريق الصدفة عندما أرادت أن تجري عملية للعين، وشاركتها الحديث شقيقتها مارية وقالت "جدتي في تلك الفترة كانت تكافح المرض وتتحاشى الأسرة في آن واحد.. المرض بتلقيها للجلسات العلاجية.. فيما ابتعدت عن الأسرة ظنا منها أنها ستنقل العدوى لنا"، وتضيف "لكننا لم نتركها فأخذنا نأكل ونشرب معها من نفس ملعقتها وكوبها، حتى بدأت تتأقلم مع وضعها وأدركت أنها لا تشكل خطراً بالنسبة لأسرتها ومجتمعها."
وأكدت ميرفت أن جدتها تعيش حياتها حالياً مثلها مثل بقية أفراد المجتمع الأصحاء وهي التي تبادر بالذهاب لأخذ جلساتها، مشيدة بدور الأطباء والعاملين بالمركز على إرشادهم والتعاون معهم لمساعدة جدتها لتجاوز أصعب مراحلها مع المرض وهي لحظة اكتشافه.
وعادت ميرفت لتؤكد أن المصابات بالمرض لديهن هاجساً كبيراً من نظرات المجتمع ومعرفة المحيطين بهن بإصابتهن بالمرض، وأشارت أن "المصافحة تنعدم بينهن.. وعندما تطلب إحداهن من أخرى شيئاً أو تستفسر عنه يكون ذلك بلغة الإشارة، خصوصاً ممن لديها بنات في سن الزواج يحاولن قدر استطاعتهن التنكر والتخفي عن الأعين خشية أن تؤثر معرفة الآخرين بإصابتهن على مستقبل بناتهن وبالتالي يمتنع الخٌطاب عن الإقدام على الزواج منهن خشية انتقال العدوى من الأم للبنت أو يكون ذلك وراثياً".
الخوف من المرض والمجتمع
من جانبها، سردت رئيسة القسم النسائي بمركز طيبه للكشف المبكر لسرطان الثدي الدكتورة نوف صبر قصصاً ووقائع لحالات من اليأس والظروف القاسية التي يصارعها مرضى ومريضات السرطان جراء خوفهم غير المبرر من المرض ورفض المجتمع لهم – حسب اعتقادهم – وقالت"عانت عاملة منزلية - آسيوية - منذ أكثر من عام الآلام ولم تخبر بها كفيلها خشية أن يقوم بترحيلها إلى بلادها مما زاد من تطور حالتها المرضية، وذلك ما جعله يخضعها للكشف الطبي في المركز، وعقب تشخيص الحالة بأنها مصابة بسرطان الثدي انهارت باكية لأن كفيلها سيرحلها لبلدها، وعندها لن تجد ما توفر به لقمة عيش طفلتيها".
وقالت صبر إن من أغرب الحالات التي مرت على المركز عندما صارحت إحدى المصابات الأطباء بأن زوجها سيطلقها لو عرف أنها مصابة بسرطان الثدي، وقالت "كانت المريضة خائفة كثيراً.. ليس من المرض فقط بل من أن يكتشف زوجها ذلك فيطلقها، فما كان من الأطباء المشرفين على حالتها إلا الاجتماع بالزوج وبينوا له أن المرض لا ينتقل بالعدوى وتم إرشاده حول المرض فعدل عن قراره".
ترفض العلاج بالكيماوي
وتسرد الدكتورة صبر قصة أخرى عن عدم تقبل المجتمع للمصابات بالمرض وخشية المريضات أنفسهن أن يكتشف وضعهن الصحي، وتقول "رفضت معلمه مصابة بسرطان الثدي تلقي العلاج الكيماوي لمدة عام ونصف مما تسبب في انتشار المرض حتى وصل إلى رئتها فبدأت تعاني من ضيق في التنفس ومن ثم لجأت للعلاج إلاّ أنها توفيت بعد أن وصلت لمرحلة متقدمة من المرض لم تفد معها فيه جلسات العلاج الكيماوي"، مشيرة إلى أن أغلب المريضات اللاتي يسقط شعرهن إثر العلاج الكيماوي يشعرن أنهن مرفوضات من المجتمع وأن أشكالهن غير مقبولة لذلك يحاولن التخفي عن الأنظار واعتزال المجتمع.
خطوات متثاقلة
ولدى جولة "الوطن" بمركز طيبه للكشف المبكر شاهدت سيدة ثلاثينية تخرج من غرفة الكشف بالكاد تحملها خطواتها، وقالت بصوت متحشرج وعبارات متقطعة من شدة الخوف والترقب للنتيجة "ترددت كثيراً قبل القدوم للمركز وذلك بعد أن رأيت إعلاناً عن خدماته على لوحة بأحد الطرق الرئيسة، وحضرت للأطمئنان على وضعي الصحي بعد أن أخبرتني طبيبة في مستشفى خاص أنني أعاني من مشاكل في الأوعية، وأخشى من أن تكون نتيجة الكشف إيجابية".
سهر وقلق
وأضافت رئيسة القسم النسائي بمركز طيبه للكشف المبكر لسرطان الثدي أنه عند الاتصال بالمراجعات لإجراء الكشف السنوي أو عمل أشعة تصل المريضة منهكة من السهر والتفكير، وقالت "وصلت مراجعة طلب منها إجراء أشعة صوتية وبصحبتها ابنتها التي كانت تبكي خشية أن تكون والدتها مصابة بالمرض لأن جدتها مصابة بسرطان الرحم بالرغم من تأكيد العاملات بالقسم أن الغرض من الأشعة إضافتها للملف ليصبح متكاملاً، في الوقت الذي كانت فيه والدتها سليمة".
55 مصابة
وقالت رئيسة القسم النسائي بمركز طيبه للكشف المبكر لسرطان الثدي إن عدد المراجعات للمركز منذ افتتاحه في ربيع الأول 1430 حتى الآن 1953 مراجعة، وأضافت "راجعت المركز 686 مراجعة عام 1430 اكتشف إصابة 6 منهن بالمرض، وفي عام 1431 راجعت المركز حوالي 914 مراجعه منهن 14 مصابة، وفي عام 1432حتى شهر جمادى الأولى اكتشفت 8 حالات من بين 525 مراجعة"، مشيرة إلى أن إجمالي المصابات بسرطان الثدي من نساء المدينة المنورة من المراجعات لمركز طيبه للكشف المبكر ووحدة الثدي بمستشفى الملك فهد بلغن 55 مصابة.
وذكرت نوف أن مركز طيبه للكشف المبكر يستقبل المراجعين والمراجعات من كافة الجنسيات ويقدم خدماته لهم بالمجان، مشيرة إلى أنه ثاني مركز للكشف المبكر عن السرطان في المملكة يقدم خدماته مجاناً، وبه قسمان نسائي ورجالي ويهتم بالفحص المبكر لسرطان الثدي بالدرجة الأولى لارتفاع نسبة الإصابة به في المملكة ثم سرطان عنق الرحم وسرطان البروستاتا والقولون كما أنه يتضمن عيادة التثقيف الصحي ويضم أقسام التحاليل والأشعة وخاصة جهاز الماموجرام، كما يهدف إلى نشر الوعي في المجتمع عن أمراض السرطان ويقيم المحاضرات والندوات والمشاركة في أبحاث الكشف المبكر عن السرطان ويقدم للمرضى خدمات اجتماعية ونفسية وطبيه بالمجان.
الكشف المبكر
وأشارت طبيبة القسم النسائي بالمركز الدكتورة رحاب البلادي إلى أن السرطان هو مجموعة من الأمراض غير المعدية والتي تتميز خلاياها بالعدائية وهو النمو والانقسام العشوائي من غير حدود وقدرة هذه الخلايا المنقسمة على غزو أنسجة مجاورة وتدميرها، أو الانتقال إلى أنسجة بعيدة في عملية نطلق عليها اسم النقيلة.
وقالت "إن السرطان يصيب الإنسان في أي مرحلة عمرية حتى الأجنة، ولكن مخاطر الإصابة به تزيد كلما تقدم الإنسان في العمر، وفي الأغلب، يعزى تحول الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية إلى حدوث تغييرات في المادة الجينية أو المورثة"، وأشارت إلى أن الدراسات أثبتت أن حوالي 80% من أمراض السرطان يتم اكتشافها عن طريق الكشف المبكر وبالتالي فإن نسبة الشفاء منه تكون عاليه بإذن الله.
الأكثر انتشاراً بين النساء
وحول الســـرطان الأكثر انتشاراً بين النساء "سرطان الثـــدي" ذكرت الدكتورة رحاب أنه شكل من أشكال الأمراض السرطانية التي تصيب أنسجة الثدي وعادة ما يظهر في قنوات الأنابيب (التي تحمل الحليب إلى الحلمة) وغدد الحليب وقالت "إنه يصيب الرجال والنساء على السواء، ولكن الإصابة لدى الذكور نادرة الحدوث، فمقابل كل إصابة للرجال يوجد 200 إصابة للنساء"، وعن أنواع سرطان الثدي قالت "ينقسم إلى حميد ويمثل 80% وخبيث يمثل 20% من إجمالي الإصابات".
أسباب الإصابة
وأكدت الدكتورة البلادي أن سرطان الثدي سبب رئيس لوفيات النساء في العالم، مشيرة إلى أن الغالبية العظمى من الإصابات بسرطان الثدي تحدث لدى النساء الأكبر من 50 عاما، وقالت من الأسباب أيضاً "البلوغ في سن مبكرة – قبل 12 عاما- بسبب تعرضهن للاستروجين بصورة أطول من غيرهن، وتأخر سن الزواج وبالتالي تأخر الإنجاب وكذلك وجود تاريخ مرضي لدى الأقارب من الدرجة الأولى (الأم، الأخوات، البنات) يزيد من فرص المرأه لتتطور لديها حالة سرطان الثدي، وكذلك استخدام حبوب منع الحمل لمده طويلة وعدم المواظبة على الرضاعة الطبيعية والتعرض المستمر للإشعاعات والتدخين وشرب الكحول والسمنة وقله النشاط البدني وسوء التغذية وعدم تناول الفواكه والخضروات، كل ذلك يزيد من فرص الإصابه بسرطان الثدي".
رعب "السرطان"
وروت البلادي لـ"الوطن" قصصا مؤلمه لمصابات تتابع حالتهن، بقولها "راجعت المركز أم لـ12 طفلا ومطلقة وليس لها أي عائد مادي وأخبرتني عند الكشف أنها ستباشرعملها قريباً"، وتضيف "وعند فحصها تبين أنها مصابة بالمرض، وترددت في إعلامها بالنتيجة إلا أنني لم أتمكن من إخبارها بالنتيجة إلى الآن".
وأكدت البلادي أن عيادتها شهدت الكثير من المواقف والاستفسارات التي توضح قلة الوعي لدى النساء حول المرض مشيرة أن كلمة "سرطان" تشكل لديهن رعباً حيث إنها تقضي معهن ما يقارب النصف ساعة لتوعيتهن حول مفهومها وأنه ليس جميع الكتل التي تصيب النساء تعد أوراماً وقالت "إن المركز يسعى لنشر الوعي حتى بالمدارس بين المعلمات"، مشيرة إلى أنها ذات مرة ذهبت مع فريق نسائي لإعطاء محاضرة لمعلمات بإحدى المدارس وفوجئن أن القاعة خالية من المعلمات وعندما حضر بعضهن وانتهت المحاضرة قالت إحداهن "سديتوا نفسنا"! .
وذكرت البلادي أن مرض السرطان بدأ ينتشر بشكل كبير في منطقة المدينة المنورة لأسباب ما زالت مجهولة –حسب قولها- مما دفع أمير المنطقة للتوجيه بشكل عاجل بإنشاء مركز متخصص بالأورام في المنطقة.
رفض العلاج أو إكماله
أما الاختصاصية الاجتماعية بالجمعية السعودية للكشف المبكر فرع مستشفى الملك فهد، ناريمان خالد رمضان فأشارت إلى أن بعض الحالات المحوله لقسم الأورام ترفض إكمال العلاج، فيما تخشى بعض الأسر على المصابات من الألم فينسحبوا من العلاج، وقالت "هناك حالات عاشت لمدة 10 أعوام بعد تلقيها للعلاج فليس كل مريض سرطان محكوم عليه بالموت"، مؤكدة أن الإمكانات بالمدينة المنورة ضعيفة وغالباً يتم تحويل المرضى إلى المستشفيات المتخصصة بجده والرياض.
ارتفاع عدد الوفيات
رئيس فرع الجمعية السعودية الخيرية للكشف المبكر أحمد عبيد حماد ذكر أنه تأثر كثيراً عند اكتمال البحث الذي قدم إلى أمير منطقة المدينة المنورة الأمير عبدالعزيز بن ماجد وما ظهر من ارتفاع عدد المصابين بهذا المرض وارتفاع عدد الوفيات خلال السنوات الماضية وما كان من تضافر الجهود في محاولة مكافحة السرطان والتقليل من أعداد الوفيات بهذا المرض من خلال الكشف المبكر حيث إنه يساعد على العلاج بنسبة 90% وذلك أخذا بالمقولة (درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج) .
وأضاف "لقد رأيت أناسا يتفانون في الحفاظ على حياة الناس من خلال دعم مراكز الأورام الموجودة لرفع كفاءتها ومحاولة تقديم يد العون لهم, ورأيت أيضا كيف تتضافر الجهود في صنع قرار سرعة إنشاء مركز الأورام فسألت الله داعياً أن يحقق قولة تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) لكل شخص قدم يد العون لمرضى السرطان بالمدينة المنورة .
مشاهدات
•قسم الأورام بمستشفى الملك فهد يحتوي على 16 سريراً فقط للنساء والرجال.
• قسم العزل ملاصق لقسم الأورام بذات الجناح.
• عدد من المرضى يثنون على الجهود الكبيرة والتعامل الحسن من قبل العاملين بمركز طيبه للكشف المبكر.
• المركز يقدم كافة الخدمات للمرضى بما فيها زيت الزيتون والعسل المقروء عليه.