إن المتأمل لأنشطة وفعاليات الحركة الثقافية في العالم العربي سيدرك وبوضوح أنها أصبحت متخمة بالمؤتمرات والمهرجانات، فالعالم العربي يشهد تنظيم ما يفوق 967 مهرجانا لأسبوع أو كل سنة أو ثلاث سنوات، وما يستتبعه من تكاليف باهظة وتغطيات إعلامية ضخمة، فالحركة الثقافية باتت أقرب ما تكون إلى دعوة لقضاء وقت مسل على أحد المقاهي أو كونها نزهة ترفيهية تأخذ في معظمها سمة الثبات والتكرار، إن المشكلة هُنا ليست في كثرة هذه المهرجانات وعدم جدواها، ففي فرنسا وحدها يوجد أكثر من 2000 مهرجان تتخللها مهرجانات للبرتقال والليمون، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في غياب الاستراتيجية الثقافية التي تعمل في الحقلين الإبداعي والفكري، فالحركة الثقافية الآن تمر بحالة من الركود والسكون، فعلى مدى عدة سنوات مضت لم يظهر عمل إبداعي خلق ردود فعل داخل الشارع الثقافي العربي يمكن من خلاله أن يحرك الذائقة الجمالية والفنية لدى الجمهور.. إنني أتساءل: أين هُم المثقفون الذين استطاعوا أن يجسدوا مسيرة مفكري وأدباء ونقاد القرن العشرين كنجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وغيرهم..؟ وبالمقابل تجد هناك سعياً حثيثاً بين جميع منظمي المهرجانات العربية لإلصاق الصبغة الدولية بالمهرجانات، فهل هذا يخدم هذه المهرجانات في الأصل؟
يجب على المهرجان أن يزرع جذوره في البلد أولا ويراعي الجمهور المتوجه إليه. فالمهرجانات العربية أصبحت تراهن على أسماء عالمية ولا تراعي رغبات الجمهور، فصار هناك تنافس بين المهرجانات على برامج لا علاقة لها بالواقع ولا بالجمهور المحلي، وأتساءل: ما الذي اتخذته هذه المهرجانات من قرارات لدعم الثقافة والفكر داخل الأمة وخارجها؟ ما الحركة والنشاط والحيوية التي أحدثتها في القلب الثقافي والإبداعي المهدد بالسقوط؟ كل ما حدث مجرد تصريحات صحفية لا أكثر! هذا الأسلوب المهرجاني قد انعكس سلبا على التعامل مع المجالات الثقافية الأكثر حيوية وتأثيرًا على مجتمعاتنا، الأمر الذي أدى إلى تدهور الثقافة في الكثير من تكويناتها وعلى اختلاف مستوياتها؛ فارتفعت نسبة الأمية بنوعيها الأبجدية والثقافية ارتفاعًا خطيرًا، حيث لم تقف الأمية الثقافية عند فئات الأميين وأنصاف المتعلمين، بل امتدت إلى أكثر الفئات حصولاً على درجات علمية، حتى أصبحنا نرى الآن ونقرأ ونشاهد أعمالا يتم ارتكابها: سرقات علمية وأدبية وفنية، وسرقات للرسائل الجامعية، وتزوير الشهادات الجامعية، وغير ذلك من الجرائم التي تجاوزت كون مرتكبها جاهلاً أو متعلمًا، حتى إنها تكاد تكون ظاهرة تحتاج إلى الرصد والتحليل، نقطة أخرى تؤثر تأثيراً مباشراً هو أن المبالغ الطائلة التي يتم إنفاقها في المهرجانات هي على حساب دعم الكتاب والمبدع والمتلقي، إذ إن الأنشطة الثقافية لا تولي أي اهتمام أو رعاية ودعم لتوسيع قاعدة القراء سواء من خلال افتتاح المكتبات التي إن افتتحت فهي تكاد تكون صورية، أو دعم سعر الكتاب المطلوب للقراءة، ومع ذلك تجدنا نتفاخر بثرائنا الثقافي والإبداعي فقط ببذخ المهرجانات والكلمات الرنانة التي نتشدق بها على المنصات والموائد.
ومع الاحترام لكل الآراء حول هذه المهرجانات بين مؤيد ومعارض، فإنها بحاجة ماسة إلى النظر والتفحص في أهدافها لا المطالبة بإلغائها، من هنا فإنني أعتقد أن حجر الزاوية في المهرجانات الثقافية هو مشروع حضور الثقافة الحقيقي نوعيا وكميا، حينما تمارس دورها الحضاري وتطرد منها العناصر الميتة، لتضيف إليه حيوية جديدة وآفاقا غير مسبوقة.