هل الشاب المتخرج حديثاً في تخصصات الإدارة والتنظيم من الجامعات الغربية هو الذي بحاجة إلى الوظيفة أم الدولة بقطاعها العام بحاجة إليه أكثر؟ هذا سؤال يحتاج منا إلى الكثير من التأمل والتدبر. طرأ ذلك علي وأنا أتابع حلقة معادة من البرنامج التلفزيوني الرائع "خواطر" للمعد القدير أحمد الشقيري وتبثها قناة (إم بي سي) بانتظام. الحلقة كانت تصور وتتحدث عن أداء إدارتي الجوازات ونقل ملكية العقارات في حكومة دبي. فقد تابعت الكاميرا نقل ملكية عقار واقعية بين بائع ومشتر وتمت العملية في أقل من نصف ساعة (21 دقيقة بالضبط) وخرج الطرفان من المبنى. لم يوجد لديهم ما اعتدنا عليه من إرشادات كالذهاب إلى الدور الثالث ثم النزول إلى الأرضي والعودة غداً لإكمال الإجراء. ناهيكم بالطبع عن التأخير في بيع أو شراء بعض المواقع الذي قد يتطلب أشهرا لإجراءات إضافية "استثنائية".

لكن كيف توصلوا إلى ذلك هناك؟ الواقع أن وراء سهولة الإجراءات المقدمة للمواطن والتي تحدث عنها البرنامج عمل كبير تم التخطيط له وتأسيسه مسبقاً وقبل البدء بهذا النظام الآلي السريع وإتاحته للمراجعين. من ذلك وعلى سبيل المثال وليس الحصر، حصر الأملاك وتحديد مواقعها وترقيمها. تأسيس ما يمكن أن نسميه دليل المخزون أو بنك الأراضي والمنازل. وراء ذلك عناوين محددة لكل عقار بأرقام ومسميات مقبولة وغير قابلة للتغيير. وراء ذلك مسح شامل وحصر لكل عقار لا يوجد له مالك أو بمعنى آخر حكومي. وأخيراً التدريب وتنمية مهارات القائمين على العمل. مثل هذا العمل الجبار وإكماله بنجاح ربما عبر سنوات من الجهد هو سر المعادلة التي لم يتحدث عنها الأستاذ الشقيري في "خواطر".

شخصياً لا أعتقد أن ما قامت به حكومة دبي معجزة. نستطيع في المملكة أن نؤسس مثل هذا العمل المتقن. لكننا نحتاج إلى التخطيط أولاً وإلى تكاتف الدوائر الحكومية ذات العلاقة لبناء مثل هذه القواعد من البيانات. من هنا تساءلت في مطلع المقال عن مدى حاجتنا إلى الدماء الجديدة من أبنائنا وبناتنا ليباشروا أعمالاً كبرى بهذا الحجم. وهذه حقيقة تفرضها ظروف الزمان والمكان دون المساس أو الجحود لما قام به الكبار الذين ربما تنقصهم العلوم والمعارف لتطوير عمل كهذا.

لو اتسعنا قليلاً في الرؤية فسنرى أننا بحاجة إلى التطوير في معظم المرافق الحكومية الخدمية وليس فقط في الجوازات أو العقارات، رغم التقدم الكبير والرائع في إدارتي الجوازات والأحوال المدنية في المملكة. من هنا ونظراً لبدء عودة الطلاب المبتعثين ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث والذين بدؤوا بالفعل بحثهم الشاق عن وظائف قد لا يجدونها ميسرة كما كانوا يأملون، أقول لنستغل هذه الفرصة ونجدد الدماء. عندما أمر خادم الحرمين الشريفين بالبدء بهذا البرنامج فإنه تغاضى عن شرط العمل في الدولة عند العودة من الغربة. فعل ذلك إيماناً منه بأن العمل في أي مكان داخل الوطن هو في خدمة تنمية هذا الوطن وسواء كان مقر العمل في دائرة حكومية أو في شركة أهلية.

سبق وأن أشرت في عدة مقالات سابقة أننا بحاجة إلى إعادة كاملة لهيكل الأداء الحكومي وتطوير سير العمل وتسهيل الإجراءات والرفع من معدل إنتاج الموظف. الوصول إلى مثل هذه النتائج سيتطلب تعيين مستشار عالمي كبير في التغيير والتطوير الإداري. تزامناً مع ذلك يجب ضخ الآلاف من المتخرجين الجدد في جهاز الدولة تحت التدريب بواسطة المستشار العالمي. لكن ذلك لا يمكن أن يحدث دون اتخاذ قرار جريء ومهم وهو إحالة البعض للتقاعد المبكر وتخفيف العبء على البند الأول "الرواتب". بدون هذا القرار ومع إضافة المزيد من الموظفين الجدد سنجد أن ثلثي ميزانية الدولة قد تذهب للرواتب فقط وهذا غير ممكن. لكن لو أقدمنا على مثل هذه الخطوة، وأنا حقيقة أرى أنه لا مفر منها مستقبلاً، فإننا سنضع اللبنة الأولى لبناء الهيكل الإداري الجديد المنشود والذي سيفي بمتطلبات الحاضر والمستقبل.

ثم إننا بهذا سنحقق الكثير من الفوائد الأخرى. من أهمها خلق الوظائف للخريجين الجدد سواء من الجامعات المحلية أو الأجنبية وما أحوجنا إلى ذلك في ظل شح عدد الفرص الجديدة التي يولدها الاقتصاد السعودي حالياً. سنحقق أيضاً نتائج مذهلة في التغلب على البيروقراطية والبطء في إنجاز المعاملات وخدمة المواطنين والمستثمرين. وسيتحقق لنا الوفر الكثير من المال كنتيجة حتمية للتخطيط السليم لمشاريع الغد إذ إن غياب التخطيط الدقيق لمتطلبات التنمية باهظ التكاليف كما نرى اليوم في بعض المشاريع المتعلقة بالصحة والتعليم والخدمات الأخرى.

أعرف أن إحالة البعض إلى التقاعد المبكر قد تكون مؤلمة نوعاً ما لكن ما الخيارات الأخرى للتوظيف من جهة وتطوير الأداء الحكومي من جهة أخرى؟ تحدثت في أكثر من مناسبة مع الكثير من المختصين ولم أجد أي حل سحري قد يساعدنا على تحقيق الأهداف التي تحدثت عنها. لهذا فلا بد مما لا بد منه، وكما يقال "وجع ساعة ولا وجع كل ساعة". ثم إن مؤسسة التقاعد قد تكون قادرة على الوفاء بمتطلبات هؤلاء الأفراد بقدراتها الذاتية بعد أن تحولت إلى واحدة من أكبر مؤسسات التطوير العقاري في العالم قياساً إلى مشاريعها في هذا المجال.

أجزم بأننا لو بدأنا بمثل هذا المشروع العملاق فسيتحقق لنا أضعاف ما تحقق في بعض دول الجوار الشقيقة من تطور في معظم قطاعات الخدمات. وأجزم أنه لن يستغرق منا إنجاز مثل هذا المشروع أكثر من عشر سنوات كحد أقصى ومبالغ به. فهل نبدأ وننتقل ببيئة العمل لدينا إلى ما يتطلع إليه جيل الغد أم ننتظر أكثر وعندئذ قد يكون الترميم أعلى كلفة وأشد مشقة وتبتعد عنه فرص النجاح وتقترب منه ويلات الفشل.؟