على الرغم من أن جدة تعافت من آثار السيول الأخيرة، إلا أن أضرارها لا تزال حاضرة بقوة لدى إحدى المواطنات، حيث أضافت لكؤوس مرارة حياتها كأسا مما أصابها بغصة لا تستطيع تجرعها.
سماح (أربعينية سعودية) كانت ترضى بالقليل من متاع الحياة، فها هو زوجها الذي تحملت عناء العيش معه 20 عاما، وأنجبت له من الأولاد عشرة، وتحمل الحادي عشر بين جنباتها، يتركها في مهب الريح وحدها تلاطم أمواج الحياة العاتية التي لا تقل قساوة عن سيول جدة.
رضيت بالعيش في مسكن بسيط مستأجر في حي السبيل يؤويها وأولادها، لتحاول جاهدة مساعدة زوجها وأسرتها، تارة بالعمل كعاملة نظافة، وتارة بإعداد وجبات منزلية، وبيعها لسكان الحي، أملا في أن تستقيم الحياة لها يوما ما، تحملت إهماله لأبسط حقوق أولاده، وعدم تسجيلهم في الأحوال المدنية، واستخراج شهادات تثبت حقوقهم كمواطنين، حيث كانت عرضة دائما لحملات الجوازات على المخالفين، ولم يكن ينقذها سوى شهادات جيرانها.
ويبدو أن ليل "سماح" الطويل لا يريد أن ينجلي، ويأتي بصبح، فبعد أن هدم المنزل بسبب السيول، ذهبت ضمن المتضررين للسكن في إحدى الشقق المفروشة، وبعد انقضاء الفترة المحددة، خرجت هائمة على وجهها تحمل على عاتقها أثقال أولادها التي ينوء بحملها أولو القوة من الرجال، باحثة عن ملجأ يؤويها من أعين الناس والمتطفلين، مستنجدة بزوجها أن يكون لها عونا وسندا في الأيام الشداد، لكن هيهات هيهات، فمن شب على شيء شاب عليه، فقد رضي بالأعمال الدنيا سنين طوالا، وراتبه كان ريالات معدودة، وأصحاب العمل كانوا فيه من الزاهدين، فهددها بتوزيع أولاده على الملاجئ، خاصة أنه لم يوجد ما يثبت هويتهم، فاستغاثت بأخت زوجها، فاستضافتها لوقت معلوم هو أربعة أيام وليال، مخبرة إياها أن حقها في الضيافة قد نفد، والقرابة بينهما أوهن من أن تتحمل أكثر من ذلك، فخرجت غاضة الطرف، فلا زوج انتفض ولا رحم أغاث.
لم تجد "سماح" ما يعصمها سوى أكوام الصفيح في الكيلو 14، لكن لجنة الدفاع المدني أجبرتها على إخلاء المكان، فتوجهت إلى جمعية حقوق الإنسان لإيجاد حل لمشكلتها، فلم تجد حلا.
خرجت في جوف الليل كهرة تحمل أبناءها في فمها، تبحث لهم عن مكان آمن، فوجدت ضالتها في مبنى مهجور في منطقة خزام، فآوت إليه، عسى يأتي الفرج من ذوي القلوب الرحيمة لإنهاء معاناتها التي استمرت ثلاثة وعشرين عاما.
كل أمنيات "سماح" في الحياة أن تجد بيتا يؤويها مع صغارها، وفرصة عمل، مع إقناع الزوج بعدم تسليم أبنائه لدار الأيتام، منتظرة دعم الجهات المسؤولة عن تسجيل هوية أطفالها الثمانية وعلاج أبنائها من الرمد والسعال ولسعات الناموس المنتشر في الحديقة، .. هذا كل ما تطلبه. سماح قالت لـ "الوطن" أمس "إنها لا تعرف حتى طريق الضمان الاجتماعي، لتتقدم إليه بطلب المساعدة"، رغم علمها بأن شروط منح المساعدات لا تنطبق عليها بحكم أنها متزوجة، ولا تنطبق على أطفالها بحكم أنهم لا يحملون أية هوية أو إثبات شخصي.