تصبح القصيدة أحياناً كثعبان الماء يصعب الإمساك به أو بها، فينابيعها المتفجرة غير قابلة للاحتواء أو الخضوع لقراءة سطحها الأفقي أو باطنها العمودي، تستبيح القصيدة الهواجس والمرويات وتتمرد على كل الفضاءات القولية، نظراً لما في داخلها من الاستبطان والكمون والعناد المتوتر والخطاب المبهم، ومسرى السياق الكلي ضمن مناخاتها الشعرية.
إن قراءة القصيدة وتعريتها مغامرة شاقة واشتغال مرهق، سواء كان القارئ لها ناقداً كاشفاً أو قارئاً عابراً وباحثاً عن اللذة الجمالية، أو متربصاً اعتباطيا جاء مدججاً بكل أسلحة الفتك والتدمير، ومعتمراً الحزام الشعري الناسف لكل معمار القصيدة ومبررات وجودها، إذن كيف نهتدي لقراءة القصيدة؟ سؤال طرحه الناقد العراقي ياسين النصير وحدد جوابه بمجموعة من الخطوات: قبل البدء بقراءة القصيدة علينا أن نضع افتراضاً نقدياً ما عن سبب اختيارنا لهذه القصيدة دون سواها، أو لهذا الشاعر دون شاعر آخر إذ ليس هناك قراءة بريئة على الإطلاق. لا تقرأ القصيدة إلا كاملة ودفعة واحدة كي يتألف ما يسمى بوحدة الانطباع، فهناك تواشج خفي بين القراءة إذا كنا عارفين ماذا نقرأ كي لانفاجأ أننا نقرأ نصاً لا دراية لنا بتاريخه ولا بالتطورات التي لحقت به. لا نقرأ القصيدة إلا إذا كانت منعزلة عن سياق قارئ آخر فلكل قراءة سياق يضع القارئ قراءاته للقصيدة في إطار مفاهيمي خاص به. لا نقرأ أجزاء من القصيدة في كتاب آخر ونقول إننا قرأناها، حتى ولو كانت القصيدة كاملة، فقد يلجأ البعض لقراءة "إليوت" مثلاً من خلال مقاطع منتقاة من "الأرض اليباب" في كتاب نقدي، فالقصيدة عالم مغلق لا تقرأ إلا لوحدها شأنها شأن الشاعر لا نقرأ أجزاء منه للحكم عليه.
قبل القراءة علينا أن نفهم بعض آليات النص الشعري ونبدأ بالسؤال هل هناك لغة شعرية ولغة غير شعرية؟ هذا التساؤل البسيط يحوي في داخله تعقيدات كبيرة، فهناك من يرى أن كل الكلمات تحمل شعرية عندما توضع في سياق شعري، والكلمات نفسها لا تحمل الشعرية عندما توضع في سياق غير شعري وهذه من البدهيات. في سياق القراءة للقصيدة لا نجد قراءة واحدة لها فكل قارئ ناقد يقرأ القصيدة قراءة خاصة به، وكانت النتيجة قراءات وليست قراءة واحدة، مما يعني أن القراءة للقصيدة لا تتم إلا بوجود أكثر من قارئ، بمعنى أن قراءاتنا للقصيدة لا تكون قراءة تامة إلا بعد مقارنتها بقراءة ثانية وثالثة ورابعة. نكتشف باستمرار أن هناك بقعاً في القصيدة بحاجة إلى تغيير في حين لا تحتاج أخرى إلى ذلك، ولكن هل تنفع مثل هذه الطريقة في تكوين رأي مكتمل عن القصيدة كلها؟ إن أي قراءة لا تقوم من داخل القصيدة هي قراءة ناقصة.