من منا ينظر إلى الأموال على أنها شيء غير مرغوب فيه؟ من منا ربط تعاسته وشقاءه باستدرار المال أو ربما بعدمه؟ البعض يعتقد أنني أقصد ذلك العناء الذي يجلبه طالب المال من سعي وكد، وإنما الحقيقة لدي هو ما يتركه المال لنا من سعادة ومن شقاء.

كل المنظرين وكل المحللين والدارسين أيقنوا أن المال أحد أسباب السعادة، فلا نتطرف ونقول أساس السعادة بأجملها ولسنا بصدد نفي ذلك أو إثباته، وإنما نتجول في رحاب المال ربما سعدنا أو شقينا فللتجول أدلة وبراهين تجعلنا نركن على حد هذين الركنين ونرتشف الحقيقة إن سعدنا أو قد نعض على النواجز إن كان غير ذلك.

كان العرب يستبشرون ويقيمون الولائم حين ينفجر لهم نبع أو يحفرون بئراً فلا يلبثون بضعة أشهر أو أيام حتى يفاجؤوا بسيل من الكر، وهذه من عادات العرب، ربما لندرة الماء لديهم وحبهم الشديد لمنابع الماء اتسم المجتمع بسمة الكر والفر.

والآبار شأن في تاريخنا نحسبه سمة الزهو والفخر والمال أيضاً، حتى في تراثنا الشعبي نربط البئر بالمال والعيش الرغيد، مثلما ترسخ في وجداننا من حكاية مثل حكاية علاء الدين الذي تحول من الشقاء إلى السعادة لحصوله على الفانوس السحري في داخل بئر تقذف الأماني.

وحينما تفجرت لنا ينابيع البترول أيقنا أن الله قد استجاب لسيدنا إبراهيم هذه الدعوة بشقيها، الشق الأول إغداق الرزق على هذا البلد والشق الثاني وفود أفئدة من الناس.

إن الحديث عن البترول والطاقة أخذ من الباحثين والدارسين مأخذه فأصبحت دراسة الاستراتيجيات الدولية ترسم خرائطها حول النفط وللنفط فقط.

فاكتفت بعض الشعوب بالماء رمز النقاء والطهر وتيمنا بمبدأ السلامة تيقنا بأن الزيت والماء لا يجتمعان حسب الحتمية الكيمائية وبالتالي (فالبعد عن السعد غنيمة) إلا أن الزيت لم يعد يشبع نهم الباحثين عن الطاقة في حين أن الذود عن الغنيمة لم يعد أمراً تثق به القوة العالمية الباحثة عن الطاقة، فسعوا إلى الماء أيضاً ولم يتركوا للبدوي منابعه التي التف حولها منذ بدء الخليقة. فالعالم العربي بأكمله يتحرك من تحت أقدامنا والأرض تميد ليس لتراكم الزيت تحتها وإنما لوجود الماء كذريعة للوصول إلى الزيت، فكلاهما مصادر للطاقة، وكلاهما يجمعهما اسم واحد "بئر" وللبئر شأن في الوجدان العربي مصدر قوته، علماء النفس يقرون ما للوجدان من أثر على النصر أو على الهزيمة.

إن أكبر تحد لدول الشرق الأوسط اليوم هو حل الصراع على منابع الماء، ففي تقرير صادر عن المركز الدولي من تأليف "فرانكلين فيشر" و"آنيت هيوبراي" بعنوان (الأصول السائلة منهج اقتصادي نحو إدارة المياه وحل الصراعات في الشرق الأوسط) وما يقدمه هذا التقرير من النظرة الشاسعة بأن المياه مصدر لا مفر منه للحروب في المستقبل إلا أنه يمكن التغلب على ذلك بالإدارة والحلول، فالمؤلفان يريان كلا من الطرفين المتنازعين يرى كل منهما أن ملكيته الكاملة لها تكمن في القيمة الاقتصادية للمياه كسلعة يمكن الاتجار بها، وهنا تتدخل القوى المانحة والصناديق الدولية لتمويل هذه المشروعات لصالح شعوب دول متنازعة كدول حوض النيل مثلا وقرار اجتماع أديس أبابا 2003، فتصبح النزاعات وحلها مدخلا لدول وأفئدة تهوي إلينا قسراً.

ثم ماذا إذا عن سد أليسو؟ إنه يعتبر من أكبر المشروعات المائية في القرن الواحد والعشرين وضع حجر الأساس له رئيس الوزراء التركي "رجب إردوغان " في عام 2006، فهو من أكبر السدود التي تقيمها تركيا على نهر دجلة فكيف نحدد حجم الأضرار التي يمكن أن تلحق بالعراق؟ ثم ماذا عن نهر الأردن الذي ذهبت إليه لأشاهد النهر العظيم الذي غنت له فيروز فما إن وصلت إليه حتى شاهدت قناة صغيرة فيها شيء من خرير الماء الرقراق المنساب بين حصواته، وحين سألت أين ذهب نهر الأردن العملاق قيل لي إن إسرائيل سرقته باجتذاب مياهه تجاهها!

إنه عالم شديد التشابك والتلاحم والاحتدام، فها هي بين أيدينا مناطق النزاع وها هو الخطر نراه يقينا حسب المواثيق الدولية وهذا هو مستقبل أجيالنا المقبلة:

• (تركيا، سورية، العراق) بسبب السدود التركية التي بنيت فعلا أو تدخل ضمن مشاريع مستقبلية لمياه نهري دجلة والفرات.

• (إيران، العراق) اللذان يتنافسان على شط العرب، ملتقى دجلة والفرات.

• (مصر، السودان، إثيوبيا) حول مياه النيل.

• (مصر، السودان، ليبيا، تشاد، النيجر) التي يدور بينها خلاف على حقل مائي جوفي بعمق 800 متر. وتريد ليبيا استثماره لشق نهر اصطناعي لتمد بذلك سواحلها بالمياه العذبة.

• (زامبيا، بوتسوانا، زيمبابوي، موزمبيق) حول تقاسم مياه نهر السنغال.

حروب قادمة وعالم من التنازع بينما الموت عطشا والجفاف يهدد البعض الآخر.

إن البدوي ـ المشتاق للمسة سلام مع الآخر ومع الذات والمكان ـ يربط أمتعته ويكز ناقته للبحث عن مكان خال من المشاحنات ليحيا حسب فطرته وطبيعته المتناسقة مع الطبيعة من هواء وماء وشعلة نار وقليل من اللبن والتمر في سلام. لكنه يصطدم بحقيقة مرة حينما يقال له احفر بئرا كي تعيش.. حينها يسقط لجام ناقته من يده وتشخص عيناه بعيدا.. ماذا بعد...