لا تزال آثارُ الانهيار الكبير الذي حصل في أسواق الأسهم الخليجية حاضرة إلى الآن، ولم تجفَّ الأحبار التي كَتبت في وصف ومعالجة ما حصل من أزمات صاحبت ذلك الانهيار، إلا أننا الآن نسمع ونشاهد - ومنذ فترة ليست بالقصيرة - عودةَ المضاربات والمجموعات غير النظامية في تداولات الأسهم! بل وربما يُمارس ذلك عددٌ ممن يتجنّب الشراء في الأسهم التي فيها بعض المحرم، ولكنه لا يتجنب مثل تلك المضاربات والمجموعات!

والسؤال؛ ما حكم ممارسة هذه التصرفات شرعا؟ وهل هي ممنوعة نظاما؟ وهل المشاركُ دون أن يكون منفّذا ومدبّرا لتلك الممارسات يأخذ نفس الحكم؟

هذه أسئلة سأجيب عنها باختصار لضيق المساحة، وسأتحدث بهذا الترتيب؛ ما هي الممارسة الممنوعة هنا؟ ثم حكمها شرعا وقانونا، وما حكم المتابعة والمشاركة في ذلك شرعا ونظاما؟ يلي ذلك تنبيهٌ على ممارسة أخرى تدخل في باب الممارسات الممنوعة في التداول.

الممارسة الممنوعة هنا هي؛ قيادة وتوجيه مجموعة من الناس لأجل الشراء أو البيع في سهم معين لرفعِ سعرِه أو خفضِه، من أجل إيقاع وإيهام غيرهم بالسهم، دون أن يكون سببُ ذلك مبرَّرا من الناحية المالية أو الاقتصادية. أو بمعنى آخر أن يكون التجمّع في ذات السهم لمجرّد الاكتساب من رفعِه أو خفضِه. وهذا التصرف يُعتبر تضليلا للمتداولين وإيهاما لهم بسعر غير حقيقي.

أما حكم هذه الممارسة شرعا؛ فهو التحريم بلا شك والله أعلم. وهذا بناء على عدة أمور منها؛ أن هذه الممارسة هي بيع النَّجش الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث صحيحة، وقد حُكي الإجماع على كراهة هذا الفعل والنهي عنه، كما أن مثل هذا التصرف فيه خديعة وتغرير بالآخرين، وهي محرمة شرعا.

وبيع النجش هو الزيادة في ثمن المبيع لأجل رفع سعره تغريرا بآخر وليس لأجل الشراء. وهذا فيه معنى ما يمارسه بعض المضاربين من رفع السعر أو خفضه لأجل الإيهام أو التضليل للآخرين، كي يشتروا أو يبيعوا ذلك السهم.

أما من الناحية القانونية؛ فإن أنظمة ولوائح هيئة سوق المال تنصّ بقوة على مخالفة هذه الممارسات وتُشدد فيها. فقد نصّت لائحة سلوكيات السوق في مادتها الثالثة (التصرفات أو الممارسات التي تُشكل تلاعبا أو تضليلا) على أن هذه السلوكيات أو التصرفات تُعتبر تضليلا وتلاعبا، ورتبت اللوائح على هذه الممارسات عددا من العقوبات المشددة.

أما من يمارس ذلك بالمشاركة، كأن يدخل في السهم بناء على توصية المضاربين الذين يتلاعبون بالسهم، فإنه يأخذ نفس الحكم في نظري والله أعلم، فهم مشاركون في نفس الإثم، فلم يدخلوا رغبة في السهم، وإنما لأجل المشاركة مع ذلك المضارب المضلِّل، وفي النهاية يبيعون على الآخرين الذين ليسوا طرفا في اللعبة! أما من الناحية القانونية؛ فإن المادة الثانية من لائحة سلوكيات السوق (منع التصرفات أو الممارسات التي تنطوي على تلاعب أو تضليل) تشمل هذه التصرفات من حيث المبدأ، إلا أنها من حيث الممارسة صعبةُ الإثبات القانوني على أفراد المشاركين غالبا. وخلاصة هذا؛ أن المشارك يأخذ نفس الحكم شرعا ونظاما، ويُعد أحد المناجِشين؛ إلا أنه يجب عدم المساواة في العقوبة عند ثبوت الممارسة.

ومما يزيد المنع والحُرْمة الشرعية؛ هو أن يكون سعر السهم المتلاعَب أو المُضارَب عليه قد تجاوز السعر العادل، حيث يُفرق الفقهاءُ الحنفيةُ وبعضُ الشافعيةِ والحنابلةِ في كراهة هذا الفعل بين بلوغ السلعة قيمتها وعدمه. والواقع أن أغلب الأسهم التي تتم فيها المضاربات تتجاوز سعرها المُستحق بكثير، مما يزيد الحرمة والمنع من تلك الممارسات.

كما أن هنالك ممارسة أخرى يجب التنبيه عليها، وهي التداول بناء على خبر أو معلومة داخلية في شركةٍ ما، ويكون ذلك الخبر لا يزال سرِّيًّا أو لم يُفصح عنه. وهذا التصرف يُعتبر ممنوعا نظاما، سواء كان من شخص مطّلع أو غير مطّلع (كما تعرّفه لائحة سلوكيات السوق في المادة الرابعة)، بنصّ المادة السادسة من اللائحة المذكورة، حيث حظرت التداول بناء على معلومة داخلية وهو يعلم أنها لا تزال داخلية.

أما من الناحية الشرعية؛ فهي بلا شك محرّمة أيضا والله أعلم، وهذا قياسا على منع تلقّي الرُّكبان وبيعِ الحاضر للبادي اللذينِ نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خداع وتغرير بالآخرين محرم أيضا.

كما أن الفقهاء قد اختلفوا في حكم البيع في الصورتين السابقتين، هل هو بيع باطل أو لا؟ والصحيح من الناحية الفقهية والله أعلم؛ أنه بيع صحيح لأن النهي لم يتوجه إلى ذات البيع، وإنما يرجع إلى أمرٍ خارج عنه. ولكن يثبت للمُغرَّر به الخيار، فإن شاء أنفذ البيع وإن شاء فسخه. وأما من الناحية النظامية؛ فإنه يعود إلى ما تراه هيئة سوق المال من خلال أنظمتها وأجهزتها القضائية والقانونية. وما أعرفه أنها تقوم بتجميد كل ما نتج عن ممارسة غير نظامية، وقد قامت مؤخرا لجنةُ الفصل في منازعات الأوراق المالية التابعة للهيئة بسابقةٍ أن حكمت لبعض المتضررين بالتعويض من خلال تلك الأموال المجمّدة من رصيد أحد المضاربين المحكومين بالتضليل والتلاعب.

هذا عرض سريع ومختصر بشكل شديد، وهو لأجل التنبيه على مثل هذه التصرفات التي دائما ما يتضرر منها في النهاية المواطن البسيط، الذي ربما يكون قد استدان لأجل تحقيق بعض المكاسب السريعة، إلا أنها كثيرا ما تنقلب عليه ويفوز بها أولئك المضلّلون الظلمة.