يعد عصر العقل والذي امتد حوالي القرن في تاريخ أوروبا من المراحل التي صقلت منهجية البحث العلمي والاستنتاج التي نستخدمها في وقتنا الحالي. هذه المرحلة التي اعتنقت عقيدة التفكير أنتجت حراكا حقوقيا كان من أبرز إنجازاته إعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن وهو أحد الوثائق الحقوقية الرئيسية التي أصدرتها الجمعية التأسيسية الوطنية للثورة الفرنسية في العام 1789م. جان جاك روسو، الفيلسوف الفرنسي وأحد أهم كتاب ذلك العصر، كان أحد العقول التي ساهمت برسم هذه الوثيقة وهو الذي لخص مفهوم المواطنة بتوازن يقوم على تنازل الأفراد عن جزء من حقوقهم وحرياتهم لصالح مجتمعهم بمقابل أن يتعهد هذا المجتمع بحماية حقوقهم. مفهوم المواطنة لدى روسو عبارة عن اتفاق بين طرفين ينص على حقوق وواجبات وهو ما يعد من بديهيات المواطنة في العصر الحديث. هذا العقد يصبح مبهما عندما تضرب زلازل الأفراد قشرة المجتمع للمطالبة بحقوقهم التي تعهد المجتمع بحمايتها.

زلازل حقوق الأفراد تختلف قوتها باختلاف قدراتهم وظروفهم وتوفر البيئة المناسبة لصدع قشرة مجتمع أخل بالشرط الرئيسي وهو توفير الحماية لحقوقهم. نجد أن المواطن الفرد السليم والذي يملك القدرة الجسدية والعقلية وتأييد القبلية والمناطقية قد يهتز المجتمع لشكواه وينتفض من تحت الركام ملبيا له بينما على النقيض فالمواطن الفرد الذي كتب الله عليه نقصا في القدرة الجسدية أو العقلية أو تكالبت عليه ظروف الحياة لا يشعر أحد بزلزال شكواه فهو صغير في مقياس ريختر للمواطنة.

تطالعنا الصحف ووسائل الإعلام بانتهاكات لحقوق أفراد وفئات مجتمعية مستضعفة كالأطفال والمعاقين وكبار السن والمعنفين وغيرهم ممن تنازلوا عن حقوقهم وحرياتهم لمجتمع تعهد بحمايتهم كمواطنين كاملين لا تنتقص إعاقتهم ولا ضعفهم من مواطنتهم شيئا. هذا المفترض ولكن واقع التعامل معهم مختلف، لا لشيء إلا لأن إعاقة عقلية مثلا لم تجعلهم قادرين على القيام بواجباتهم، التي لا يعلم حتى الفرد السليم حقيقة ماهيتها، ومع ذلك تهتز القشرة لزلزاله لقدرته على المطالبة بحقوقه.

هذا المجتمع الذي تعهد بحماية المستضعفين الذين تنازلوا عن جزء من حقوقهم وحرياتهم عبارة عن سلسلة من حلقات وزارية ومؤسساتية ومنظمات وهيئات وعوائلهم. هذه السلسلة لا وجود لها، فحلقاتها متناثرة مبعثرة تتحرك حول خصر المفاهيم المتعددة المتداخلة لمواطنة هذه الفئات المستضعفة، فهم تارة مستحقون للتبرعات الخيرية وتارة مستحقون لخدمات وزارية، والأغلب يتوحد بالتقليل من مواطنتهم لعدم قدرتهم على أداء واجبات أوكلت مهمة تحديدها لجهات متعددة. هذه الواجبات الضبابية التعريف أوجدت ثقافة التقليل من حقوق الفئات المستضعفة وعززت ثقافة أنهم مواطنون غير كاملين ولا ضرر من تقديم خدمات غير كاملة لهم.

أصبحت هذه الفئات المستضعفة صلصالا يتم تشكيل حقوقها وواجباتها للتوافق مع استراتيجيات المؤسسة التي تعنى بهم، ولنأخذ فئة الاحتياجات الخاصة كمثال توضيحي، فهم عملة يتم تداولها في سوق نطاقات، وإعلان مؤثر في جمع التبرعات، وأداة عرض في مؤتمر إعلامي وإحصائيات منقوصة لبرنامج وطني ومن ثم نتعجب ونشجب ونندد عندما يعاملون كأجزاء مواطنين من قبل مؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع كافة.

وجود استراتيجية وطنية موحدة ذات تنظيم مستقل يعنى بالفئات المستضعفة أصبح حاجة ملحة في ظل ضبابية تعريف هذه الفئة كمواطنين وما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. هذه الاستراتيجية والتي لا بد أن تضم معايير جودة للخدمات المفترض تقديمها لهم كمواطنين، ستكون الضمان لجودة حصول هذه الفئات على حقوقها وخدماتها وستكون المرجع لمحاسبة وعقاب أي مقصر. هذه الاستراتيجية ستكون النواة لتأطير مفهوم مواطنة الفئات المستضعفة والمحرك لاستصدار قانون يضمن حقوقهم ويحاسبهم على واجباتهم.

هذه الفئات المستضعفة تستنجد وما فتئت تزلزل ولكننا لا نشعر بهم لأن المقياس لا يسجلها وإن سجلها فإنه يتجاهلها لعلمه بيقين أنها لن تصل لقشرة الأرض ولن تصدعها. نحن بحاجة لاستبدال هذا المقياس بنظير له أكثر حساسية وإنسانية وأكثر تعزيزا للوطنية.