نستقي عنوان هذا الحديث من أحد محاور ندوات مهرجان الجنادرية، بالعاصمة الرياض في دورتها السابعة والعشرين. وقد تلقيت دعوة كريمة من إدارة المهرجان للمشاركة فيها، لكن انشغالي بحضور ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بمدينة الحمامات في تونس، لمناقشة التحولات الأخيرة، وإيجاد خطة طريق حيالها، لم يمكنني من المشاركة في الندوة القيمة المشار إليها.

عنوان الحديث هذا يحيل إلى دور المثقف العربي في الحركات الاحتجاجية، التي شهدها الوطن العربي منذ مطالع العام الذي مضى، وحملت مسمى "الربيع العربي"، كانت تونس هي البلد الذي انطلقت منه الحركة الاحتجاجية، لتنتقل بألسنتها، وبسرعة لم يتوقعها أكثر المتفائلين بهذه الحركة، إلى أرض الكنانة ولتنتشر لاحقا كالهشيم بعدد كبير من الأقطار العربية.

والعنوان كما أراه، مرتبك وواسع وفضفاض. فهو يتعامل مع الحركات الاحتجاجية، وأسبابها وطريقة اندلاعها بنسق واحد. في حين أن أوضاع البلدان العربية، غير متماثلة في ظروفها. وذلك يعني بالضرورة اختلاف الأدوات، والأسباب التي أدت إلى اندلاع الحركة الاحتجاجية. فليس الاستبداد وحده، هو مبرر انطلاق هذه الحركات، وهو أيضا ليس الفقر. فهناك بلدان يرتفع فيها سقف الحرية، ولكنها تعاني من الفساد والفقر، وهناك بلدان أخرى يطغي فيها سقف الاستبداد ولكنها في وضع أفضل في مستوى معدلات الدخل بها مقارنة لغيرها من الأقطار العربية.

إن ذلك يعني، أن هناك أسبابا مركبة، لاندلاع هذه الحركات، تختلف في دوافعها من بلد لآخر. ولعل أكبر محرض على اندلاعها في وقت واحد هو ما جرى وصفه من قبل بعض الكتاب العرب بأنه موسم هجرة إلى الثورة، اقتباسا من عنوان رواية موسم الهجرة للشمال للطيب صالح. بمعنى أن العامل الرئيس لاندلاع هذه الحركة، في هذا التوقيت بالذات هو التأثير والتأثر... بين البلدان العربية.

هناك معضلة أخرى، تتعلق بمفهوم المثقف. فالمعنى كما ورد يشير بشكل خاص إلى المهتمين بالتحليل السياسي، دون غيرهم. وهنا تدخل عناصر أخرى حول إمكانية التزام الباحث بالحياد، الذي هو شرط العلمية والموضوعية في الكتابة بما يفترض وجود المثقف خارج الحدث، وذلك ما لا يتطابق مع مجريات الأحداث في الحركات الاحتجاجية العربية.

ثم إن التداعيات السياسية للحركات الاحتجاجية لا تزال في بداياتها. فبالكاد يمكن القول إن تونس استكملت بناء مؤسسات ما بعد تنحي رئيسها السابق عن السلطة. أما أرض الكنانة، فرغم أنها استكملت انتخاباتها النيابية ومجلس الشورى وصوت شعبها على التعديلات الدستورية، فإن أمامها مهمة تشكيل الحكومة، وفتح باب الترشح للرئاسة في الشهر القادم، في ظل انفلات أمني لم تشهد له أرض الكنانة مثيلا مند عدة عقود. وفي ليبيا لا تزال الفوضى وانفلات الأمن يعمان هذا البلد الشقيق رغم انتهاء حقبة الرئيس القذافي بسيطرة الثوار على السلطة. والحال ينطبق على الأوضاع باليمن، التي نأمل أن تشكل المبادرة الخليجية التي رعتها المملكة، بداية حقيقية لتعافي هذا البلد الشقيق، ووضعه على سكة السلامة.

في بقية البلدان العربية التي شهدها موسم الربيع العربي، تراجعت حركة الاحتجاجات في بعضها، وبقيت في قوة زخمها في بلدان أخرى، دون وجود ما يشي باقتراب الأزمة فيها من نهاية النفق. إن ذلك يعني استحالة تقديم قراءة استشرافية صحيحة، تسهم في صياغة خارطة طريق للانتقال السلمي وإقامة الدولة المدنية في هذه البلدان.

لكن تقديم هذه الملاحظات من جانبنا لا يعني أن المثقف سيقف متفرجا خلف ما يجري من حوله، من غير أن يكون له دور في القراءة والتحليل، واستثمار ما هو متوفر لديه من مناهج وخبرة، لتقديم رؤية أولية لهذه الأحداث، والعمل على التأثير فيها. فمهمته تظل باستمرار، المساعدة في إجراء تغييرات مجتمعية إيجابية وصولا إلى حالة أرقى وأكمل.

ولا شك، أن التحولات الأخيرة، التي جرت في عدد من البلدان العربية، قد دفعت بعدد كبير من المثقفين العرب إلى القلب منها. فهؤلاء المثقفون، كانوا في المقدمة من ركبها أثناء مراحلها الأولى قبل أن تتمكن من حسم جولات الصراع في صالحها. وكانوا هم كتاب الدساتير، والمروجين للمبادئ والأفكار الجديدة. وهم أيضا قادة الحراك السياسي، الذي أمن للتحولات مسارها السلمي، وهم أيضا، قادة الأحزاب السياسية، القديمة والحديثة التي تتنافس على حصد المقاعد في المجالس النيابية ومجالس الشورى، ويشكل الفائزون منهم، الحكومات الجديدة التي تقود السلطة في البلاد بالسنوات القادمة. وهنا يتداخل دور المثقف بالسياسي، في مشهد مغاير لم تعهده الأمة العربية منذ عقود طويلة.

إلا أن ذلك ينبغي ألا يؤخذ على علاته. ففي هذه المرحلة، وبشكل خاص بالبلدان العربية، التي حسمت فيها نتائج الحركات الاحتجاجية بتغيير أنماط الحكم، سوف نشهد نوعين من المثققين: نوع داخل السلطة يلعب دور المثقف والسياسي في آن معا، ونوع آخر في المعارضة، يلعب دور المثقف الذي يواصل التحريض على التغيير، لكنه يرنو إلى بلوغ السلطة في دورات نيابية لاحقة.

ذلك يعني في الحالتين، أن السياسي والمثقف، يسيران في خطين متوازيين، رغم ما يبدو من تعارض وتنافر بين الوظيفتين. ففي حالة بلوغ السلطة يضطلع المثقف بوظيفة السياسي، من حيث انتقاله من الحالة المثالية والرومانسية، إلى الواقعية والبراغماتية. لكن المتوقع أن يبقى بعض من مواصفات ما قبل استلام السلطة من رؤية حالمة ومثالية في جانب الطرف المعارض، حتى تأتيه الفرصة لتسلم الحكم.

في كل الأحوال، يظل وجود السياسي والمثقف أمرا مهما وجوهريا. فالمثقف هو الذي يقدم المبتدأ، بصياغته للنظريات السياسية والبرامج التطبيعية لإدارة الدولة والمجتمع. ولكنه لن يتمكن من الوصول إلى الخبر ويحقق نظرياته وبرامجه ومناهجه، إلا بحالتين: الأولى وهي التي سادت لعقود طويلة في واقعنا العربي، وفيها يحتضن السياسي موقف المثقف ويتبناه، ويعمل على تحقيقه، فلا تبقى أحلام المثقف معلقة بالهواء. والنمط الآخر، وقد أخذ مكانه مؤخرا، وهو أن ينتقل المثقف إلى خانة السياسي، ويضطلع بدوره. والخطورة هنا أن يغادر دوره كمثقف ملتزم إلى الأبد. لكن دورة التاريخ لن تتوقف. فسوف ينبثق من رحم الواقع الاجتماعي الجديد، مثقفون جدد، سيجدون عناوين أخرى ونظريات وبرامج مغايرة لمن سبقهم. وتلك هي سنن الكون. وتبقى محاور أخرى في هذا الحديث بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.