علم اجتماع العلوم هو أحد العلوم البينية الناشئة حديثا بسبب الحاجة إلى المزيد من التخصص، فهو يقع في نقطة التقاء أربعة علوم: علم الاجتماع العام والعلوم الطبيعية وفلسفة العلوم وتاريخ العلوم. وعلم اجتماع العلوم هو باختصار العلم الذي يدرس العلوم الطبيعية بشكل أساسي وبقية العلوم الأخرى انطلاقا من اعتبارات اجتماعية. بمعنى أنه العلم الذي يقوم على مسلمة أساسية هي: أن التطور العلمي أو حركة البحث العلمي مهما كانت تبدو مستقلة إلا أنها مشروطة بالمجتمع والتاريخ ونسق الحقيقة السائد. إذن هناك، باعتبار هذا العلم، أسباب اجتماعية شاركت في صنع الحالة العلمية كما هي عليه في أي وقت من الأوقات.
قبل الدخول في التفاصيل يمكن هنا القول إن هذا العلم يحمل معه منهجا وأداة علمية مهمة جدا، أقول هذا وأنا أفكر في الحالة العربية، فمن خلال عدّة هذا العلم المفاهيمية يمكن لنا أن نفكر في ظروف العلم الطبيعي في الثقافة العربية بشكل أوضح وأدق. فالعلم هنا يتبدى بوصفه شبكة اجتماعية داخل محيط اجتماعي يؤثر ويتأثر به. فمع المنهج التاريخي والإبستمولوجي من الضروري إدراج المنهج الاجتماعي العلمي في المساعدة على فهم هذه الحالة. ففشل السياق العلمي في الثقافة العربية يمكن أن يقارب من هذا المنظور أي من خلال دراسة الحالة الاجتماعية التي يوجد فيها هذا السياق. ينطلق هذا العلم البيني من رحم علم الاجتماع أساسا ولكنه بسبب الاقتراب من العلوم الطبيعية فقد اكتسب بالضرورة أدوات مهمة تمكنه من فهم الأجواء الاجتماعية لهذه العلوم، سواء في المختبر أو في المحيط الاجتماعي داخل المؤسسة العلمية أو خارجها.
من هذا المنظار سنطرح أسئلة تتعلق بعلاقة المؤسسة العلمية بغيرها من مؤسسات المجتمع.
بالنسبة لعلاقة العلم بالمؤسسة السياسية العربية فيقول التاريخ إن الدخول الأول للفكر العلمي والعقلاني دخل إلى الساحة العربية بدعم وتأييد قوي من المؤسسة السياسية، خصوصا في العصر العباسي الأول مع بداية حكم المنصور (136-158هـ) مرورا بالرشيد (170-193هـ) والمأمون ( 198-218هـ) والمعتصم (218-227هـ). كان هذا الدعم لأهداف عملية بالدرجة الأولى باعتبار أن هذه الإمبراطورية كانت تحتاج للكثير من الوسائل العلمية لتدير بها شؤونها كدولة وكمجتمع في طور النمو والنشاط الكبير في ظروف لم تكن هنا كحضارة مقابلة قادرة على توفير هذه الحاجات الماسة، كما أن هذا الدعم جاء نظريا ولكن في الدرجة الثانية ولأغراض سياسية بالدرجة الأولى، فقد تبنت الدولة العباسية في أطوارها الأولى فكرا عقلانيا لمواجهة الغنوص الفارسي والشيعي. إلا أن هذا الدعم لم يلبث أن توقف بعد أن استبدلت الدولة ابتداء من المتوكل (232-247هـ) واستمرارا بعد ذلك أيديولوجيتها العقلانية المعتزلية بأيديولوجيا سلفية لها موقف مضاد ومعارض للعقلانية والبحث الطبيعي، وبهذا وئدت التجربة الأولى والكبرى. بعد انتهاء الدولة العباسية وفي عصور الانحطاط غاب تماما عن الفضاء العام طرح المسألة العلمية في ظل دول هزيلة وسيطرة محكمة للتيارات اللاعقلانية على الثقافة العربية.
مع النهضة العربية الحديثة ومنذ عهد محمد علي عاد الاهتمام بالمسألة العلمية من جديد ولكن في ظروف مختلفة، ففي هذا العصر (1805-1848م) كانت هنالك حضارة ناهضة ومتقدمة بمراحل كبيرة جدا، وكان من الصعب مجاراتها، ولأن الاحتياجات كانت أيضا عملية لا نظرية، فإن عملية استيراد التقنية كانت هي الحل، كما أن البحوث العلمية في الداخل كانت لأهداف عملية، وبقيت المساحة النظرية العقلية المتعلقة بالفكر والثقافة مهملة، وبهذا استمر غياب العلم عن كونه طريقة في التفكير في الحياة بعمومها. ولنقرأ هنا تحليلا لهذا الوضع من رشدي راشد، فيلسوف العلم الفرنسي، من أصول مصرية، رئيس مركز تاريخ العلوم والفلسفات العربية والقروسطية في باريس، يقول: منذ عهد محمد علي, وعهد عبدالناصر إلى الآن, لم يهتم أحد بالعلم كقيمة اجتماعية, حيث كان يتم الاهتمام بالتكنولوجيا أكثر من العلم, أو بالأبحاث التطبيقية أكثر من الأبحاث العلمية النظرية, لأن مفهوم العلم كان تطبيقيا, على سبيل المثال, عندما جاء محمد علي بالسان سيمونيين, الذين ساعدوا على إدخال العلم في مصر, مثل كلوت بيك, كان هذا التصور نفعيا وتطبيقيا. ولما جاءت الثورة أو الانقلاب عام 1952, كان هناك شعور بأهمية العلم, لكن كان التصور ـ أيضا ـ تطبيقيا لا نظريا".
ويمكن أن نجعل من التجربة المصرية هنا عنوانا لكل التجارب العربية الأخرى، حيث تم استحضار التقنية الغربية لأهداف عملية وبقي الفكر العلمي غائبا عن كونه حاجة ماسة. ومن المعلوم أن التقنية هي نتاج العلم وصورته المجسّدة، ولكن حين تظهر في سياقها الطبيعي الذي نشأت فيه، أما في حالة استيراد التقنية إلى بيئة لا علمية فإن تأثيرها الفكري يبقى محدودا جدا.
إن وجود العلم كقيمة اجتماعية يعني، كما يقول رشدي راشد "إنه لا بد من أن تعترف بالعقلانية باعتبارها القيمة الاجتماعية الأولى وهو ما لم يحدث أبدا".