كتبت على مدى الأعوام الماضية مقالات عدة عن الفساد منها (مكافحة الفساد.. ودور رجال الأعمال)، (الفساد.. سرطان المجتمعات)، (قصة نجاح سنغافورة)، (دائرة التحقيق في الممارسات الفاسدة)، (ماذا نريد لمحاربة الفساد؟).

وفي مقالي (الفساد.. سرطان المجتمعات) قدّمت التجربة السنغافورية في محاربة الفساد والخطوات الجادة الصارمة والعقوبات الرادعة التي طبقها رئيس وزرائها (لي كوان يو) على مدى عقود كي يغير سنغافورة وينظفها ويقتلع جذور الفساد وينتقل بها من أسوأ الدول في العالم إلى الدولة الأنظف (الأكثر خلواً من الفساد) في آسيا في عام 1996، ومن ثم استطاع أن ينتقل بسنغافورة من العالم الثالث إلى مصاف دول العالم الأول، ولم يكن هذا مصادفة وإنما نتاج مشروع محاربة الفساد الذي كان البرنامج الوطني الأول الذي وضعته الحكومة بعد نيل الاستقلال.

واليوم لن أعيد وأكرر ما كتبته سابقاً ولمن أراد قراءة ما كتبت أن يعود لمقالاتي السابقة.

ولكني أكتب عن الفساد اليوم من زاوية أخرى، فمنذ أن بدأت هيئة مكافحة الفساد عملها والصحف تطالعنا كل يوم بما يكتشف من قضايا فساد. وكل ملف يفتح معه ملفات أخرى، وأصبح هناك اضطراد في تزايد الكشف عن قضايا فساد، وآخر ما طالعتنا الصحف يوم الثلاثاء 31 يناير 2012 في الصفحة الأولى من صحيفة عكاظ بتقرير هيئة التحقيق والادعاء العام الذي ناقشه مجلس الشورى في جلسته الطارئة الثانية يوم الاثنين 30 يناير 2012، والذي يفيد بأن عدد المتهمين في القضايا في دوائر التحقيق وصل عددهم إلى (113,982) متهماً.. نعم مئة وثلاثة عشر ألفا وتسعمئة واثنان وثمانون متهماً بزيادة قدرها 17% خلال عام واحد. وهذا الارتفاع ليس بالضرورة أن يكون سلبياً، فقد يعكس أننا بدأنا حقاً معركتنا مع الفساد وبدأت تنكشف لنا قضايا فساد لم نجرؤ على فتحها في السابق.

موضوعي اليوم هو أن الفساد في بلادنا الغالية تجاه المال العام تعدى كونه فساداً يجب استئصاله إلى ثقافة مجتمع تجاه المال العام.

فلبندأ بتعريفنا للثقافة التي سأستند في تعريفي لها لبعض ما كتبه مالك بن نبي في كتبه (شروط النهضة) و(مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) و(بين الرشاد والتيه).

فالثقافة تعرف بأنها الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأس مال أولي في الوسط الذي ولد فيه، فهي بذلك المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته، وبذلك فإن الثقافة لا تعد علماً يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله يغذي الحضارة في أحشائه، فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعاً للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك المزارع والراعي والتاجر والحداد والفنان والعالم والطبيب والإمام.

فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها التي تتضمن مهارات متجانسة وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة وعبقريات متقاربة وكل ما يعطي الحضارة سمتها الخاص بها.

فالثقافة ليست علماً خاصاً لطبقة من الشعب دون أخرى، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي، فهي إطار حياة أو جسر يعبره المجتمع إلى الرقي والتمدن.. وعلى جانبي الجسر حاجز يحفظ بعض أفراده من السقوط من فوق الجسر إلى الهاوية. وهذا الإطار يجمع بين راعي الغنم والعالم والمزارع والتاجر والطالب والمدرس والمريض والطبيب والفقير والثري بل والجاهل والمتعلم.. وبذلك يتضح لنا مفهوم الثقافة.

فمثلاً.. كان من ثقافة العربي منذ الجاهلية الوفاء بالعهد وعدم الكذب، وجاء الإسلام ليتمم هذه المكارم من الأخلاق. ومن ثقافة الياباني الاقتصاد في كل شيء والتوفير وعدم ترك شيء من الأكل كفضلات يلقونها احتراماً للنعمة، ومن ثقافتهم كذلك تبجيل المدرس والمعلم من قبل كل فئات المجتمع وإن كان رئيسا للوزراء.

ومن ثقافة بعض الدول التعامل مع الشارع بطريقة أفضل من التعامل في بيوتهم من ناحية النظافة فلا تجد من يلقي شيئاً في الشارع بل يبادر بإزالة ما يراه في الشارع ووضعه في الزبالة وإن كان هذا الشيء ورقة صغيرة على قارعة الطريق، وأمثلة أخرى كثيرة عن ثقافات الشعوب.

الفساد في مجتمعنا تعدى كونه فساداً مستشرياً إلى كونه ثقافة مجتمع تجاه المال العام، وإننا لو حاسبنا كل من تساهل أو فرّط بالمال العام بغض النظر عن صغره أو بساطة ما فرّط فيه -من مبدأ تغليظ حرمة المال العام- فلا أشك أننا سننتهي بأن يحاكم نصف الشعب نصفه الآخر.

ما هو السبيل إذن؟ وكيف نعالج هذا المجتمع المريض؟ إنني أعتقد أننا بحاجة إلى مشروعين وطنيين متلازمين:

الأول هو مشروع مكافحة الفساد الذي قد تكون نواته هيئة مكافحة الفساد (أعانها الله) وإعطاؤها صلاحيات مطلقة وضمانات وحصانة بشرط أن تبدأ بالشريف قبل الضعيف، تجنباً لما حذرنا منه معلمنا وقائدنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أن نكون ممن إذا سرق فيهم الضعيف عاقبوه وإذا سرق فيهم الشريف تركوه.

والمشروع الثاني هو مشروع وطني لبناء ثقافة هذا المجتمع، ولكن لا سبيل لتصحيح ثقافة مجتمعنا والعودة بها إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنقية فهمنا لمفهوم الثقافة من أغاليطها وعلى رأسها مفهوم الحرفية في الثقافة والحرفية في التعلم.

فمالك بن نبي ينبّه إلى نوعين من الأمراض لا بد أن نميز بينهما: مرض جهل الأمية ومرض التعالمية (الحرفية في التعليم أو الحرفية في الثقافة)، وقد سمّى بن نبي هذه الشريحة المريضة من المجتمع بالمتعالمين.

فجاهل الأميّة عند بن نبي هو حامل المرقّعات ذو الثياب البالية ومداواته سهلة.

أما المتعالم فهو حامل اللافتات العلمية الذي لم يقتن العلم ليصيره ضميراً فعالاً يعمل به بل ليجعله آلة للعيش وسلماً يصل به إلى أعلى المراتب وهذا هو عقل المتعالم المريض. فالعلم عنده عملة زائفة غير قابلة للصرف، لأنه لم يُقّوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها ومداوته لا سبيل لها، ولا بدّ من إزالة هذا المريض ليصفو الجو للعاملين العاقلين الجادين المخلصين.

إن مكافحة الفساد مهمّة صعبة، ولكن الأصعب منها هو هدم الجسر القديم وبناء الجسور الجديدة التي يعبرها المجتمع للرقي والتمدن، وأن توضع على جانبها الحواجز التي تحفظ أفراده من السقوط، ووضع الإطار الاجتماعي الجديد بصوره الحسية النقيّة الطّاهرة الجميلة والتي ستنعكس صوراً معنوية في تفكير وأعمال أفراد المجتمع، فلا يخدع المجتمع بالمتعالمين (محترفي العلم) أصحاب العقول المريضة الذين لم يقتنوا العلم ليصير ضميراً يعملون به وإنما آلة للعيش والتكسب والترقي في المناصب.

عندها فقط سيتحصن المجتمع، وينفك من أسر شريحة المتعالمين بفهمه الصحيح للثقافة ودورها في صنع التاريخ، ويشارك مشاركة حقيقية فينتقل من اللافعالية إلى الفعالية في صنع ثقافته وحضارته، وعندها فقط توكل الأمور إلى أهلها (وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن).