لا يأتي المثقف الحق الذي أدرك مهمته وعرف أنه بمثابة المنارة التي تضيء لمجتمعه زوايا الظلمة إلا بخير، ولا يكون من المبدع الذي استثمر ما وهبه الله عز وجل من قدرة على رؤية الأمور - على اختلافها - من جهات عدة إلا مناط خير كذلك، وليست المهرجانات والملتقيات الحظية بالمبدعين والمفكرين وذوي الرؤى وشداة الفن إلا سبيلا للخير، خاصة إذا استعملت فيما يرتقي بشأن المجتمعات لا أقصد فئاتها النخبوية فحسب بل كل الفئات المنتمية والمشكّلة لبنيانها وتمظهرها ووجودها الحضاري، فدائرة التأثير جديرة بأن تطال الجميع وتعمل على إضفاء مسحة التطوير في قراءة الواقع واستشراف المستقبل.
هذا الدور- وأدوار أخرى قد لا نتمكن من تلمسها في الوقت الراهن - تضطلع به الجناردية بوصفها منجزا ثقافيا تراثيا جعل فسيفساء الوطن ماثلة نصب عينيه، هذا الحضور السنوي المنتظر أصبح مذ سني تأسيسه الأولى هاجس كل مواطن ومواطنة حتى وإن بعدت المسافة وحالت دون الوصول إلى موقع القرية الكبرى، أو دون حضور الفعاليات المتنوعة بدءا من الأوبريت "المؤجل هذا العام" والحفل المصاحب مرورا بالأجنحة والأركان المتخصصة في نقل التراث باعتباره قيمة وممارسة مهنية تكتظ بها قرى "المناطق" التي احتفلت هي الأخرى على صعيد الجنادرية بنماذج من موروثها المعماري وما يحويه من طرز نادرة وشيم وعادات وفلكلور شجي، وليس انتهاء بالزخم الإبداعي والفكري الذي يخصص له المهرجان محورا كل عام تداوله العقول بالطرح والمناقشة والمشورة ناهيك عما اختطه منظمو المهرجان في أعوامه المتأخرة من استضافة دول شقيقة وأخرى صديقة قاصدين مدّ جسور من العلاقات الثقافية، إلى جانب عرض ما نعتز به من نتاج ثقافي وقيمي.
هنا فقط يكون للثقافة ظل وارف تتفيؤه الأجيال، تستدعي ماضيها وتستثمره معززا لحاضرها، فتمتلك القدرة على محاورة المتغير والجديد مهما اختلفت ملامحه وتنوعت طرائقه، ولعل في الزيارات المنظمة للمدارس للتجول في قرية الجنادرية، ومشاهدة العروض المسرحية الموجهة "خصصت هذا العام للطفل" ما يعود على النشء بالنفع سلوكا واكتسابا معرفيا.
إنه الظل الجميل الذي ابتغاه المهرجان، وعلى مؤسسات الدولة أن تعمل على تنسيق جهودها في كل مناطق ومحافظات الوطن الممتد لينعم به الجميع.