كثيرة هي الجماعات التي هاجرت إلى السعودية في القرنين الماضيين واندمجت في مجتمعاتها الجديدة وأضافت إلى نسيجها الاجتماعي وأثرت فيه، حتى أصبح ذلك الاندماج جزءا مهما من موروث تلك المناطق التي قطنوها، ومن تلك الجماعات الحضارمة في الحجاز والمشاهدة في حائل والمدينة.
والمشاهدة، جماعات من منطقة النجف سموا بذلك نسبة إلى سوق المشهد الذي يقع بجوار قبر الخليفة علي بن أبي طالب في العراق، هاجروا إلى حائل في منتصف القرن الثالث الهجري ومكثوا فيها أكثر من قرن من الزمان أثروا خلالها في مختلف النواحي الاجتماعية في المنطقة خصوصـا التجـارة والعمـران والأدب، قبل أن يعود جزء منهم إلى النجف والجزء الآخر هاجر إلى المدينة المنورة واندمج في مجتمعها.
"الوطن" تسلط الضوء على الهجرة الأولى للمشاهدة إلى حائل وأسباب ذلك، من خلال الباحث التاريخي أحمد بن فهد العريفي مؤلف كتاب "مقامات حائلية"، وما هي بصمتهم في حياة المجتمع الحائلي وآثارهم التي تركوها لتبيان زمن جميل عاشوه من خلال فنهم المعماري وأدبهم.
تجارة حائل قبل المشاهدة
العريفي أوضح في حديثه إلى "الوطن" أن سوق حائل الرئيسة في عهد الأمير عبدالله العلي الرشيد في منتصف القرن الثالث عشر الهجري كانت تقع في حارة لبدة وسط مدينة حائل، في موضع يعرف إلى عهدنا هذا – عند سكان لبدة – باسم (المسحب) ويقع في وسطها.
وأضاف "أن (المسحب) انتقل إلى حي برزان بعد توسع العمران في مدينة حائل في عهد الأمير طلال العبدالله الرشيد، أمير حائل خلال الفترة من 1263 – 1283، بعد أن قام ببعض الإصلاحات المهمة والمؤثرة في الحياة الاقتصادية في المدينة، ومنها (بناء ما يقرب من 80 دكاناً عرفت باسم (مخازن) وهي نواة سوق برزان المعروف حتى عصرنا الحاضر وبنيت الدكاكين في المنطقة الواقعة غرب قصر الحكم (برزان)".
أسواق حائل تجذبهم
وبحسب العريفي "أن بداية قدومهم كان عام 1263 بعد أن افتتح الأمير طلال أسواق حائل لاستقبال جماعة من التجار العراقيين – من أهل المشهد (النجف) كانوا يعرفون في حائل باسم (المشاهدة) – واحدهم مشهدي – ومنحهم بعض التسهيلات التي يحتاجونها لممارسة التجارة والعمل في حائل".
وبين العريفي "أن تلك التسهيلات أغرتهم، فاستبقوا القدوم إلى حائل، والإقامة فيها غرب سوق برزان سمي فيما بعد بسوق المشاهدة"، ومن أشهر العوائل المشهدية التي أقامت في حائل في تلك الفترة وما بعدها حتى زمن ارتحالهم من حائل هم الحبوبي والمرزة والمعلا والسنابلة والعبود وغيرهم.
الأدب والعمارة
وبين العريفي أن أشهر رجالاتهم الذين أقاموا في حائل هو شاعر النجف محمد سعيد الحبوبي الذي هاجر مع أبيه وعمه إلى حائل سنة 1280، وهو في الخامسة عشرة من عمره، وتتلمذ على يديه– شعرياً – لاحقا شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري.
وفي مجال العمران أوضح العريفي أن بين هؤلاء القادمين من المشهد إلى حائل جماعة من أصحاب الحرف الماهرين، كعبود شكر المشهدي الذي كان يستخدم (الجص) في رسم لوحات رائعة على جدران بعض مجالس (قهاوي) حائل كقهوة إبراهيم المشاري والدقلي في لبدة، وقهوة الموسى السيف في سرحة، وقال العريفي "وعبود هو عبدالعزيز بن يوسف بن محمد جواد بن حسين بن محمد بن شكر بن محمود البزرجي المولود في النجف سنة 1276، والمتوفى سنة 1369، ولقد تأملت بنفسي نقشه في (قهوة الموسى السيف) فوجدته يحدد تاريخ ابتدائه النقش بسنة 1295".
تسامح التعامل
وأكد العريفي أن أهل حائل تعاملوا مع تجار المشاهدة بالبيع والشراء، وشاركوهم في كتابة العقود، والتوقيع بالشهادة عليها، وقلما كان يحدث بينهم وبين سكان حائل ما يعكر صفو هذه العلاقة الاقتصادية البحتة التي تقوم أساساً على الصدق والأمانة والثقة المتبادلة دون النظر إلى جوانب الاختلاف".
وأوضح "أن أعجب ما كان يتناقله كبار السن الثقات ممن أدركتهم من أهالي حائل، والحكايات التي تدل على الثقة المتبادلة والسماحة في التعامل بين الفريقين: ما يروى عن تاجر من كبار تجار حائل في القرن الماضي، هو الشيخ سليمان البراهيم العميم الذي ساومه على دكانه (قهوة) تاجر من المشاهدة، فلم يتفقا على السعر، وكان ذلك سنة 1332، قبل قيام الحرب العالمية الأولى بأيام قليلة، وكان العميم قد نوى البيع في نفسه لكنه كان يأمل في سعر أفضل، وبعد أيام قليلة اندلعت الحرب وتضاعف سعر القهوة، بسبب انخفاض العرض وزيادة الطلب عليها ومر التاجر المشهدي بالتاجر العميم، فناداه، وقال له: خذ بضاعتك، فتعجب المشهدي وقال: لكنك لم تبعني، قال: لكني نويت أن أبيعك بالسعر الذي عرضته علي، والنية محلها القلب، فقال المشهدي: هل تعرف سعرها اليوم بعد الحرب؟ قال: نعم ولكني بعتك قبل الحرب وهذا رزقك".
قبورهم شاهدة عليهم
وأوضح العريفي أنه لم يكن هناك تأثير من هؤلاء التجار القادمين من منطقة خارج حدود الجبلين بما يحملونه من أفكار وعادات على جيرانهم من الناحية الاجتماعية، وقال "كل من الفريقين عاش حياته الاجتماعية منفصلا تماماً عن الآخر، والاحترام المتبادل والتعاون سمة التعامل فيما بينهما".
وبين أن من آثار المشاهدة في حائل قبورهم التي كانت في الناحية الشمالية الغربية من مقبرة (مغيضة) وأضاف "تتميز قبورهم عن سائر القبور في المقبرة بعظم شواهدها، وخلوها من الكتابة".
باعوا أملاكهم قبل الرحيل
وبحسب العريفي فإن إقامة المشاهدة في حائل امتدت من عهد طلال بن رشيد حتى ارتحالهم تماماً إلى المدينة المنورة وإلى بلادهم العراق قبيل انضمام مدينة حائل إلى الدولة السعودية سنة 1340، بعد أن باعوا ما كان لهم من أملاك في سوق المشاهدة على جماعة من سكان حائل بيعاً لم يغبنوا فيه ولم يظلموا.
شاهد عيان
يوسف الكويليت نائب رئيس تحرير صحيفة الرياض، أحد مواليد حي لبده الذي ترعرع في سوق المشاهدة، يقول "المشاهدة عرب أقحاح، ويبدو لي أن أغلبهم كان من قبيلة شمر".
وتابع في حديثه إلى "الوطن": سوقهم بنوه بأنفسهم، حيث كان يتكون من شارع وسيع يقاطعه آخر ضيق، وساقية للسيل، والمحلات على جوانبه وقد هدم هذا الشارع الآن بعدما كان شارعا مغلقا إلا على أصحابه الذين كانوا منغلقين على أنفسهم فيما يخص طقوسهم"، مضيفا "أما علاقاتهم التجارية والحياتية الأخرى فكانت تتم بشكل طبيعي مع المواطنين آنذاك".
وأضاف الكويليت "أجدادنا اشتروا منازلهم في لبدة، والمستغرب في الأمر أنهم لم يغيروا في نمط بيوتهم عن البيوت الحائلية فلم نجد فيها شيئا مختلفا ومبنية من الطين".
وبحسب الكويليت فإن قلة تأثيرهم على الحياة الاجتماعية والفنون والتعليم "لاعتبارهم لأنفسهم وقتها نخبة اجتماعية، نظرا لأنهم قدموا من بلد متحضر كالعراق".
ويؤكد أن الشاعر العراقي الجواهري مدح حائل في مذكراته وهذا يظهر مدى تأثره بأستاذه الحبوبي الذي ذكر هو نفسه في مقدمة ديوانه أنه ولد في حائل، مرجعاً سبب ترك المشاهدة لحائل وتفرقهم إلى النجف والمدنية المنورة ومدن أخرى إلى "جريمة قتل ارتكبت من قبلهم ضد أحد حراس السوق، مما جعل حاكم حائل آنذاك يطلب منهم الرحيل عنها وقد تم ما أراد".