من أكثر الأمور التي تشعرني بالغثيان وتكدر يومي كاملا، عندما أفتح إحدى الصحف الورقية أو الإلكترونية، وأجد مجتمعنا بكل أطيافه عاد للمربع الأول في نقاش قضايا استهلكت الجهود والعقول بل وعطلت حتى الأعمال، مثل قضايا " الغناء بين الحلال والحرام" و" المرأة الدرة المصونة " و" السينما ذلك الوحش المفترس"وما يشابهها من" قضايانا وخصوصياتنا".

وبالمصادفة أنني كنت قبل لحظات من اطلاعي على تفاصيل "داحس والغبراء" الجديدة التي ثار نقعها قبل أيام بعد أن أورد الشيخ عادل الكلباني بعض أقوال علماء الأمة السابقين حول جواز الغناء، أستمتع بمقاطع صوتية من قراءات القارئ الراحل الشيخ عبدالباسط عبدالصمد (رحمه الله)، صاحب الصوت الشجي، والتلاوة التي تستخرج الدمعة من العينين عنوة، خصوصا عندما يرتل آيات الوعيد أو الترغيب على مقامات صوتية مثل "الحجاز" و"نهاوند" و"سيكا"، مع أداء حركي يوصل المعنى إلى أعماق القلوب والأذهان. فمن المعروف أن الغناء ما هو إلا أداء صوتي بالدرجة الأولى، وذلك وفق مقامات وسلالم موسيقية اكتشفتها أذن الإنسان بتفاعلها مع جميع المكونات الطبيعية حولها ثم ابتكرت معها آلات موسيقية مصاحبة.

القضية هنا ليست التحليل والتحريم الذي له درجات بناها الشارع الحكيم تبعا للمصلحة والضرر، فلا أحد يشك في أن غناء على آلة عود بأدب وإبداع، يختلف في درجة تحريمه أو تحليله ـ من خلال ضرره على المتلقي ـ عن الغناء والرقص المصحوب بخلاعة في الصوت والأداء والملابس كما يحصل في القنوات الفضائحية الحالية. ففقد يكون الأول تحليقا بالنفس، أما الثاني فهو إسفاف وتضييع للأخلاق والقيم.

ولكن القضية الأهم أن النقاش الذي نراه عند إثارة موضوعات مثل الغناء أو السينما أو الفنون بعامتها، يدل على تسطيح فكري تتحمل مسؤوليته المؤسسات التعليمية في المقام الأول، فلا تجد أحدا لديه القدرة على التفكير والتحليل السليم . فالكل وعلى جميع المستويات الشعبية "يطير بالعجة" لأنه حفظ عدة كلمات كتبت في ذهنه بالخطوط الحمراء أنها "محرمة" ومحرم الحديث فيها. فلنا أن نتخيل أن أحد الذين علقوا على فتوى الكلباني ـ بغض النظر عن دقة الفتوى من عدمها ـ قال في أحد المواقع الإلكترونية ( أنا شاب مدخن ولا أصلي إلا نادرا، ولكن ياشيخ ـ يقصد الكلباني ـ عيب عليك تقول هذا الكلام .. الغناء حرام .. حرام وأنت ما أنت ما فاهم شيء .!! ).

فمن جعل مثل هؤلاء يتحدثون مع من هو أعلم منه بهذا الشكل وهذه الصيغة المحزنة ؟