دخل الشاب مفتول العضلات إلى غرفة التجهيز للعمليات ولبس ملابس الجراحة وأجرى عملية التنظيف استعداداً لدخول غرفة العمليات. توجه داخلاً الغرفة وتقدم نحو المريض الملقى على السرير، طلب المشرط من الممرضة. نظرت إليه باستغراب قائلة: من أنت؟ قال أنا زميلكم فالح من قسم المحاسبة. فسأله طبيب التخدير: وماذا تحسب نفسك فاعلاً؟ قال: سأجري هذه الجراحة أليست جراحة قلب مفتوح؟ وأنا حاصل على درجة الماجستير مع مرتبة الشرف. طبعاً بقية هذه القصة الخيالية، ستكون بالتأكيد في "العصفورية".
بل إنه لا يجوز لطبيب جراحة عظام أن يصف علاجاً لمريض يعاني الروماتيزم، أو أن ينفذ الجراح العادي جراحات المخ والأعصاب. هؤلاء أشخاص من أذكى البشر ويدرسون سنوات تتجاوز السبع في كليات الطب ويكملون دراساتهم في أفضل الجامعات العالمية، ومع ذلك فالطب هو الميدان الوحيد الذي لا يمكن أن يعترف بغير المختصين. السبب بسيط وهو أن النتيجة تظهر على الفور والمتأثر هو أهم ما يملك الإنسان وهو صحته.
تتوقع من قوم هذا نهجهم أن يحترموا التخصصات الأخرى، وخصوصاً تلك التي لم يقرؤوا فيها كتاباً، أو يحضروا محاضرة. ومعلوم أن كليات الطب وحدات مستقلة في الجامعات ولها منهجها الخاص الذي لا يتقاطع مع أي كلية أخرى.
طبيب يقضي سنوات تتراوح بين عشر وعشرين من عمره في كليات الطب والمستشفيات طالباً ثم متدرباً ثم ممارساً, تأخذ الدراسة من وقته ما يزيد على العشر ساعات كل يوم. يبرع في المجال ويصبح ممن يشار إليهم بالبنان، وفجأة تجده مدير قسم الشؤون الإدارية في المستشفى، آخر تجده مدير قسم المشاريع وثالث تجده مدير إدارة المستودعات. حتى انتشرت مقولة "إن لم تكن طبيباً فليس لك مستقبل في وزارة الصحة".
اختزلت الوزارة كليات الإدارة بمختلف تخصصاتها وكليات الهندسة وكليات القانون والشريعة والمحاسبة والتموين والعلاقات العامة في دورة أو دورتين. تعقدهما لطبيب ليصبح رئيس قسم أو مدير إدارة أو مديرا عاما، ولكم أن تكملوا المناصب. حتى تخصص اسمه إدارة المستشفيات لا نجد دورا واضحا لخريجيه. هل نتج عن هذا الاختزال مكاسب أم خسائر؟ لنبحث في الآتي :
-تستثمر الدولة في الطبيب المال وسنيناً من الانتظار. تقول الإحصائيات إن الطبيب يكلف ما يقارب خمسة ملايين ريال حتى يصل إلى درجة "استشاري"، وماذا يحصد الوطن؟ سبع إلى خمس عشرة سنة، ومن ثم يتحول الاستشاري إلى العمل الإداري الذي يمكن التأهيل له بمبالغ لا تتجاوز مائتي ألف ريال وخلال أقل من سبع سنوات.
- تضطر الوزارة للبحث المستمر عن المؤهلين وهي مهمة شبه مستحيلة بالرواتب التي ندفعها كما قال أحد مندوبي الوزارة. النتيجة الحتمية هي التعاقد مع استشاريين أقل تأهيلاً، وتتأثر الخدمة المقدمة للمواطن.
- التوزيع غير الفعال للميزانيات والبنود بما يؤدي إلى الإخفاق، فشخص غير مختص سيواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الميزانيات وتكتيكات الصرف والاستفادة القصوى من الميزانية وهذه من الأمور التي تعتبر تخصصاً بحد ذاتها.
- تغيير الخطط وإعادة رسم الأولويات، ذلك أن الخطط لا تبنى على قاعدة علمية. تهمل جزئيات مهمة وتجارب سابقة، فيعاد رسم الخطط بعد اعتمادها لأنها لم تحقق الأهداف لعدم اعتمادها على أسس علمية في الأصل.
- الوقوع ضحية التجاوزات والمخالفات المالية المستمرة الناتجة عن سوء الإدارة وعدم التخصص . خلال الشهر الماضي قفزت للواجهة قضية اختلاسات نفقات الأدوية وقضية اختلاس مبالغ فحص ما قبل الزواج الأخيرة، وهناك الكثير من الأدلة على وجود ثغرات تخطيطية أو تنظيمية أو تنفيذية، وقد يكون هناك المزيد. وكنت كتبت سابقاً مقالاً بعنوان "الدواء للمسنين والفقراء يا معالي الوزير"، أتساءل فيه عن النقص الخطير في الأدوية وأقترح حلولا قد تحمي المواطنين وتوفر لهم العلاج بسهولة.
- استخدام أسلوب النسخ واللصق حتى وإن كان في غير محله. الأطباء بحكم عملهم وتطبيقهم في مستشفيات غربية يرون الكثير من الأمور الإدارية الجيدة والتي يريدون نقلها إلى المملكة حباً في الوطن، فيأخذون الكثير مما يشاهدونه ويطبقونه بحذافيره هنا، برغم اختلاف البيئة ونوعية المستفيدين من الخدمة والتجهيزات داخل وخارج المنشأة الطبية.
- تضطر الوزارة بعدها للتفاعل مع الأزمات التي تواجهها فتلجأ لشركات العلاقات العامة والتي ستقدم النصائح لغير المختصين وتجني من ورائها مبالغ كبيرة، دون أن يتحقق المردود المطلوب. اليوم لا تكاد تقرأ صحيفة إلا وتجد فيها شيئاً عن خطط الوزارة وتوجهاتها، وأشهر ما شاهدنا خلال الفترة الماضية عقد مؤتمر"المريض أولاً", ومن ثم الحملة الإعلانية في جميع وسائل الإعلام السعودية عن المستشفيات والمراكز المتخصصة وما أنفق عليها خلال الأعوام الماضية وما سينفق في القادم. ثم يأتي خبر آخر ليسيء لهذه الحملة وهو خبر تقليص أو دمج 43% من المستشفيات والخدمات التي تقدمها الوزارة اعتماداً على الكثافة السكانية في دولة كثافتها السكانية لا تتجاوز 8 أشخاص للكيلومتر المربع .
أيها السادة ما دمتم أسياد الاختصاص وأكثر من يطالب باحترامه، فابقوا في عياداتكم وغرف عملياتكم وسلموا الإدارة للمديرين والهندسة للمهندسين والقانون للقانونيين والمحاسبة للمحاسبين. فليست نسبة الذكاء بديلاً عملياً لسنوات الدراسة المتخصصة التي تبنى على إرث معلوماتي كبير يتعلمه المختص في الكلية المتخصصة التي يتخرج فيها.