إن الفراق صعب، وكلما كان الفقيد قريبا كانت الحرقة أعمق، تضرب في أعماق الروح، ومن منا لم يجرب ألم الفراق؟ إنها الحياة؛ مولد.. تفاعل.. ثم وداع، منا من يفهم، ومنا من يعاند، ومنا من لا تصله أي رسالة.. يداوم على أداء واجب العزاء ولكن يتعامل معه كأي واجب اجتماعي آخر.

حضرت الكثير، وعشت الحرقة مرة بعد مرة، ولكن المظهر الذي كان يشدني أحيانا وينفرني، بل يثير غضبي أحيانا أخرى؛ هو تواجد بعض الداعيات ممن يدرن على بيوت العزاء، ليس من أجل التخفيف، أو من أجل التذكير، بل من أجل الترهيب، أو جمع المال كصدقات لما تلقيه على الحضور من احتياجات اجتماعية لأسر أو أشخاص، أو حتى السعي في طلب الشهرة كي تطلب في مجالس أخرى، ومنها تتحصل على نفوذ بين نوعية معينة من المجتمع، ترجع إليها في كل صغيرة وكبيرة.

لست ضد الدعوة أو الدعاة، خاصة النساء منهن، فلقد زاملت خلال مسيرتي في مجال التربية والتعليم شخصيات راقية في التعامل، صاحبات قلوب بيضاء ووجوه مبتسمة تكاد لا تفرق بين نور الشمس والضوء الذي ينبثق من وجهوهن، ولكن لا ننسى أنهن خرجن من مدارس فقيهات وعالمات لدينا مشهود لهن بالكفاءة ليس على المستوى المحلي بل على مستوى الوطن لما يمتلكن من قدرات ومهارات في إيصال المعلومة بطرق تهز المشاعر وتقرب الحضور إلى الروحانية بالمحبة ثم المحبة.. إذاً ما الذي يضايقني وأعتقد أنه تعدٍّ على المشاعر؟

هو استخدام أسلوب الترهيب وأهل الميت لم تبرد نارهم بعد!

حضرت مرة عزاء لشاب انتقل إلى رحمة الله تعالى إثر حادث أليم، وبينما كانت طقوس العزاء قائمة من عطاء وتلق، إذا بإحداهن تدخل وتخاطب الحضور دون إحم أو دستور! عادة ما يبدأن في الترحم والدعاء، جميل لكن سرعان ما يتحول المجلس إلى وعيد وتهديد ورسم صور بكل دقة لعذاب القبر ومن ثم عذاب جهنم، والذي أدمى قلبي أن إحدى السيدات كانت قد فقدت ابنها قبل أسبوع فقط، وكاد يغمى عليها من البكاء وهي تصغي لمن نصبت نفسها داعية، والتي لم ترحم لا أهل الميت ولا الحضور، وأطلقت مهاراتها في إنشاد معلقة تهاجم لا تُذّكر، وهي تصيح وتولول من شدة التأثر! لا أدري، هل يقسن نجاحهن بمستوى الدموع التي تغرق والشهقات التي تنطلق من القلوب المصابة؟!

وفي مرة أخرى، دخلت إحداهن، وأخذت تعطي الدرس بعد الدرس، لم تنفر ولم تصرخ، وكان دعاؤها جميلا يرق له الحجر، ولكن.. في نهاية الدرس فتحت حقيبة وأخذت تدور على النسوة طالبة تبرعا من أجل امرأة مسكينة لديها طفلة بحاجة للعلاج ولا تملك الثمن، هنا أفقت من الروحانية كأنما أخذت صفعة على جهي، وهي من صفعني، كيف تجرؤ وتقوم بمثل هذا الفعل مستغلة الموقف؟! بالطبع لن يسألها أحد أو يتأكد، خاصة بعد هذه البداية الروحانية التي مهدت لها الطريق، ثم إنها غير معروفة! من يضمن أن ما تجمعه هو بالفعل لتلك المرأة المسكينة؟! لست ضد المساعدة ولست ضد التعاون في سبيل مرضاة أرحم الراحمين، ولكني ضد استغلال شفافية مشاعر الغير للانقضاض عليهم وتمرير ما يراد، قد تكون صادقة وقد لا تكون، ولكن من يضمن؟ فبعد أن رأينا وسمعنا عمن جمعن أموالا في سبيل الله واتضح فيما بعد أنها كانت في سبيل الإرهاب! من يحمي المجتمع من هكذا اختراقات، خاصة أنه معروف عنه أنه وفي الحالات العادية يعطي وبسخاء للتبرع للمحتاجين فكيف بمثل حالات الموت والروح متعلقة برحمة وعطاء الله سبحانه؟!

ولقد رأيت منهن من تأمر وتنهى، وتطالب الحضور بصوت عال وطريقة فوقية وكأنها من يجب أن يتحدث وعلى الجميع أن يصغي، قبلن أم لم يقبلن، ومن تتحرك للخروج أو تريد أن تطلب شيئا ممن تجاورها في المجلس، تطلق نحوها نظرات نارية وكأنها اقترفت ذنبا عظيما والعياذ بالله! ثم على كل من يصل إليها صوتها أن تتحمل الصراخ والبكاء والتهويل، والاتهامات المبطنة، والله لكأنك تشعر بأنك في محاكم التفتيش وليس في عزاء! عادة ما استنتجت أنهن متدربات جئن للساحة، نعم يعتبرن العزاء ساحة، لكي يجربن ما لديهن من قدرات ومهارات على خلق الله، متخذين غطاء الحزن والرحمة لأهل الفقيد وأن لا أحد سوف يتقدم نحوهن ويسألهن من سمح لكن أو من أدخلكن؟ فالعزاء مفتوح للجميع، ومن صاحبة الأخلاق الإسلامية الإنسانية المتجذرة في أعماق مجتمعنا وأرواحنا، التي سوف تطلب منها أن تتوقف وهي برأي الجميع لم تحضر إلا لتقوم بخدمة نبيلة في التخفيف عن أهل الميت؟!

ولكن ما رأيته وسمعته أمس من إحدى الداعيات في العزاء الذي كنت فيه، كانت وكأنها بلسم رحمة، أسلوب، حديث، صوت ملائكي، جعلت كل من في المكان تصغي دون أن تطلب أو تلح، نعم أدمعت الأعين، وحرّكت القلوب ولكن من المحبة من الروحانية من شعاع الله الذي جعلتنا نكاد نلمسه من حديثها، والله لأول مرة أسمع أهل فقيد يرتجين داعية كي لا تنتهي من الحديث، ولكنها أجابت، لدي الكثير ولكن أريد أن أترككن وأنتن بشوق لسماع المزيد مما يقربكن من الخالق حتى بعد ذهابي، فتبقى القلوب معلقة بالرحمن الرحيم، لم تطل، لم تصرخ، لم تنفر، لم تهدد، كانت في قمة التواضع، مع مخزون محبة أظنه وصل من خلال من سمعها لأسرهن وأقاربهن في تلك الليلة، تمنيت لو أن لدينا الكثيرات مثلها، خاصة في المدارس، بدلا من الكثيرات اللائي صدف وحضرت لهن خلال مروري على بعض المدارس، مما جعلنني أفكر بأن أوقفهن، وأقول كما قالت إحدى الشخصيات في مسرحية الماغوط: "يا مختار على مهلك رح يطق لك عرق"!