أكتب هذا الأسبوع من مدينة إسطنبول، حيث تعج الصحافة بأخبار اكتشاف جديد، مُغرق في الوحشية، في منطقة "ديار بكر" في الجنوب الغربي من تركيا، ويعرض هذا الاكتشاف على الملأ ما كان يجري في تركيا من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، على نطاق واسع، من قبل قوات الأمن، ويربط تلك الأحداث بمجموعة سرية تجري محاكمتها منذ بعض الوقت بتهمة محاولة الانقلاب وإعادة سيطرة العسكر على الحكومة التركية.
ومدينة إسطنبول هي العاصمة الثقافية والتجارية لتركيا، وعندما ترى فخامة عمرانها وجمال طبيعتها ورشاقة تخطيطها، فإن من السهل أن تتخيل كيف كانت هذه المدينة عاصمة العالم، في الحقيقة، مدة قرون من الزمن، تحت ظل الحكم العثماني، ومن قبله في عصر الإمبراطورية البيزنطية. وكانت رغبتي أن أكتب هذا الأسبوع عن هذا الجانب، وعن جانب آخر لا يقل أهمية، وهو الحوار الاستراتيجي بين مجلس التعاون وتركيا الذي عُقد الأسبوع الماضي في إسطنبول، وهو حوار رسّخ قواعد الشراكة الاستراتيجية المتنامية بين دول المجلس وتركيا، والتي يمكن أن يكون لها أثر غير محدود على المنطقة.
ولكني سأكتب اليوم عن اكتشاف جديد لجانب مظلم من تاريخ تركيا الحديث، لنتبين أهمية دور الحكومة الحالية في تركيا في نقلها من فترة قاتمة كانت فيها المؤسسة العسكرية-الأمنية حاكماً شبه مطلق، وراء مظاهر الحكومة المدنية، وانتُهكت فيها حقوق الإنسان التركي دون حساب، حيث هاجمت قوات الأمن معارضي الحكومة بلا هوادة، وشوهت سمعة تركيا خلال ذلك. ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002م، شرع في تغيير هذه الصورة التي أصبحت نمطية لتركيا حينذاك، ولكن تلك الأيام المظلمة لم تنفك تعود إلى المسرح التركي بصور مختلفة. فمنذ سنتين، كشفت الحكومة عن وجود محاولة انقلابية تضم عدداً كبيراً من كبار العسكريين، وتكاد متابعة تفاصيل هذه المؤامرة ثم محاكمة المتهمين بالضلوع فيها أن تهيمن على اهتمام المواطن التركي منذ الكشف عنها. وساهمت هذه القضية في تعميق تمسك المواطن بالحكومة المدنية، كما ظهر واضحاً في الانتخابات عام 2011 التي أعيد فيها تجديد الثقة بحكومة العدالة والتنمية، وفي الوقت نفسه رسخت شكوك المواطن في نوايا بعض قادة العسكر. وفي هذا الأسبوع، انكشفت قضية أخرى، قد يكون لها آثار مماثلة على السياسة التركية، فقد نشرت الصحف التركية على صفحاتها الأولى هذا الأسبوع تقارير موثقة عن وجود مقابر جماعية في منطقة "ديار بكر" في جنوب غرب تركيا، لأشخاص مجهولي الهوية، وتم اكتشافها أثناء إعادة ترميم مجمع عسكري في المنطقة.
ومن التحقيقات الأولية التي قامت بها السلطات التركية، فإن من المرجح أن هذه القبور الجماعية التي تم اكتشافها في ديار بكر قد دُفن فيها معارضون للنظام العسكري ضمن حملة منظمة قامت بها قوات الأمن في التسعينات، تم فيها اعتقال الآلاف واختفت آثارهم منذ ذلك الحين. ولا يُعرف على وجه التحديد عدد من طالتهم تلك الحملة، وإن كانت بعض التقديرات الأولية تشير إلى أن عددهم قد يصل إلى سبعة عشر ألفاً. وكانت قوات الأمن حينها مطلقة العنان في تلك المنطقة، التي تسكنها غالبية كردية، وكانت تحت الحكم العسكري وقتها وفقاً لما كان يُعرف بـ "قانون الأوضاع الاستثنائية"، الذي استمر تطبيقه في المنطقة لمدة ثلاثين عاماً.
وحجم تلك المقابر الجماعية في حد ذاته مثير للاستغراب والتساؤل، ولكن المصادر التركية تشير إلى أمر آخر لا يقل غرابة، وهو العلاقة بين هذه الأحداث والمجموعة المتهمة بالمحاولة الانقلابية التي أشرتُ إليها آنفاً. فتلك المجموعة، وتعرف بشبكة "إرجنكون" وتضم أعضاء في مناصب عليا في الجهازين العسكري والمدني في الدولة، كما تضم بعض كبار الكتاب والصحفيين وغيرهم، وكثير منهم أمام المحاكم في الوقت الحاضر للبت في موضوع المحاولة الانقلابية. ويُعتقد الآن أن عدداً من الأعضاء البارزين في هذه الشبكة يقفون خلال حملة التطهير التي قادتها قوات الأمن في فترة التسعينات في دياربكر، وبالتالي يتم ربطهم الآن بالمقابر الجماعية التي تم اكتشافها هذا الأسبوع.
ولكن المؤامرة لا تنتهي هنا، حسب المصادر التركية. فهذه الشبكة المتهمة بمحاولة إعادة الحكم العسكري لتركيا تبدو امتداداً لمجموعة أخرى يعود تاريخها إلى بدايات القرن العشرين، حيث تربطها تلك المصادر بجماعة "الاتحاد والترقي" المشهورة، وهي التي تولت مقاليد الحكم في تركيا بعد نجاح الانقلاب الذي قادته في عام 1908 ضد السلطان عبدالحميد. ويعتقد كثير من الأتراك أن تلك الجماعة استمرت في تواجدها خلف الكواليس منذ ذلك الوقت، وأن شبكة "إرجنكون" هي آخر تقمص لها.
ويتضح من هذه التطورات أن طريق تركيا نحو الديموقراطية الكاملة، وإن كان يبدو غير قابل للتراجع والانتكاس، إلا أن هذه البلاد ما زالت بحاجة إلى مواجهة أشباح عصورها المظلمة، حين كان العسكر يديرون دفة البلاد، وحين عانت حقوق الإنسان من جراء ذلك شر معاناة، كما رأينا في قضية المقابر الجماعية التي اكتشفت هذا الأسبوع.