شاءت الصدف أن ألتقي بالأخ علي البراك الرئيس التنفيذي للشركة السعودية للكهرباء في منزل صديق عزيز ضمن عدد من المدعوين. وكالعادة كان الحديث في الشأن العام وتحديداً البطالة وهمومها وسعودة القطاع الخاص. عندما تحدث الأخ البراك عن العمل الذي يقومون به في توطين الوظائف لديهم قررت أن يكون هذا هو موضوعي لهذا الأسبوع.

سبب حماسي لذلك أنها قصة نجاح لم يتحدث عنها أحد في الإعلام. فنسبة السعودة في هذه الشركة الكبرى التي يغلب على عملها الصيانة ميدانياً تصل إلى ما يقرب من 90%. كل الفرق التي تشرف على كهرباء المدن ميدانياً هي فرق سعودية. ما يستثنى من ذلك أحياناً هو وجود شركة متعاقد معها لتقديم الدعم الفني في بعض المواقع. ما عدا ذلك فهم سعوديون، لكن كيف ومتى ومن أين أتت الشركة بهؤلاء؟ هذه هي قصة النجاح برأيي، إذ بإمكان أي جهة أن توظف سعوديين، لكن هل تنجح وتستمر؟

اتضح لي أن الشركة قد سعت ومنذ وقت مبكر إلى وضع برنامج طموح لتوطين الوظائف لديها. إذ يتم سنويا استقطاب ما لا يقل عن 100 إلى 1200 شاب سعودي من خريجي الثانوية القسم العلمي، ومن خريجي الكليات التقنية والثانويات الصناعية، ويتم اختيارهم بعناية من بين حوالي 30 ألف متقدم للشركة سنوياً، وتتم المفاضلة على اختبارات القدرات والتحصيل العلمي واللغة الإنجليزية. تتولى عملية الفحص جهات خارجية ولا تتدخل إدارة الشركة في الاختيار إلا في الجزء الخاص بالمقابلة الشخصية الذي لا يمثل أكثر من 20% من الدرجة، ويتم التركيز فيه على مدى استعداد المتقدم للعمل الفني وعلى الحالة الصحية والجسدية له لبعض التخصصات. المكافأة التي يحصل عليها المتدرب تبدأ من 1500 ريال شهرياً. يبدأ برنامجهم بالتدريب النظري في المعاهد لمدة سنتين موزعة على أربعة فصول دراسية تركز على اللغة الإنجليزية والعلوم، بالإضافة إلى مواد الكهرباء والميكانيكا حسب التخصصات المحددة لكل طالب، ويتم اختبارهم في نهاية كل فصل دراسي، ومن لا يجتاز الاختبارات يعطى فرصة واحدة فقط.

خلال وجودهم في المعهد يتم التركيز وبشكل كبير على موضوع الالتزام واحترام مواعيد الحضور، ويعطى ذلك وزنا هاما في التقييم. بعد انتهاء مرحلة التدريب النظري والحصول على الشهادة يتم توزيعهم على مواقع العمل كمتدربين على رأس العمل (OJT) لمدة سنتين أخريين يتم خلالهما الإشراف عليهم من قبل الإدارات في مواقع العمل والمتابعة من قطاع تطوير القوى العاملة بالشركة، ويتم تقييم أداء كل واحد دوريا.. في حالة اجتيازهم مرحلة التدريب العملي بنجاح يتم تحويلهم كموظفين منتظمين في محطات التوليد وشبكات النقل والتوزيع وغيرها. هنا يبدأ الراتب بـ5000 ريال، وهو ما يوازي تقريباً راتب الجامعي حديث التخرج، بالإضافة إلى بدل السكن والتأمين الطبي الشامل له ولأفراد أسرته.

يقول الدكتور البراك: إن قيمة بوليصة التأمين الطبي تكلف سنوياً أكثر من 40 مليون ريال تغطي 32 ألف موظف وذويهم. هذا النوع من الاستثمار هو ما نسميه الاستثمار الموجه لبناء الإنسان، إذ ما فائدة الراتب الشهري إذا لم تأت معه رعاية قوية كالتأمين الصحي مثلاً أو بدلات السكن والمواصلات. ولهذا أتت رؤية الشركة مطابقة تماماً لما وعدوا به وأعلنوه في الموقع الرسمي للشركة. فقد جاء ضمن القيم التي تلتزم بها الشركة ما نصه: "الموظفون هم أهم مقوماتنا, ولذا نحرص على الارتقاء بمستوياتهم وتنمية مهاراتهم عن طريق التدريب, وتمكينهم من أداء أعمالهم, وإشاعة روح الفريق الواحد, وإثراء التفاعل والتفاهم في ما بينهم".

نعم يوجد نقص في الأحمال ظهرت بوادره قبل سنوات، لكن هذا في رأيي وفي معظمه خارج سيطرة الشركة. سبب ذلك ربما عوامل أخرى مثل غياب التناغم المطلوب في تحقيق الخطط واتساع المدن بطريقة شبه عشوائية، وما إلى ذلك من تشعبات. على أن الحل لهذا النقص قد بدأ يأخذ طريقه، وسيكتمل العمل في التوسعات الضخمة التي تعمل الشركة حالياً على الانتهاء منها. الذي يهمنا في هذا الموضوع هو مساهمة الشركة في بناء الفرد السعودي. وهنا أتساءل: هل توجد لدينا منافسة لائقة لتحديد الأفضل من بين الشركات والجهات الخاصة نحو التوطين؟ هل نكتفي فقط بمعاقبة المقصرين في برامج السعودة أم أنه من الواجب أيضاً أن نشيد ونشجع وندعم ونبرز من يؤدون أدوارهم الوطنية بكل اقتدار وتميز؟ نعم هذا واجبهم بلا شك ولكن التحفيز والتقدير من الأمور المحمودة والمطلوبة في أوقات البناء.

كل هذا الإنجاز في الشركة السعودية للكهرباء في ناحية. والناحية الأخرى أنني اكتشفت مع التفكير في كتابة هذا الموضوع أننا معشر الكتاب مقلون كثيراً في إبراز مثل هذه القصص. أصبحت أقلامنا تتجه فقط إلى النقد والتفنن به ولا غيره. النقد مطلوب ولكن؛ كيف لنا أن نتجاوز إنجازات من كنا بالأمس نطالبهم بالتطوير ونتجاهل حسن الأداء الذي تفوقوا من خلاله بتحقيق غاياتهم، غايات الوطن؟

من هنا فإنني عزمت وتوكلت على الله ألا أنتظر قصص النجاح تأتي إلي لأنها ربما لن تأتي، بل سأبحث عنها وأحاول إبرازها من منبري المتواضع هذا. كما أتمنى على زملائي في الصحف والبرامج الإعلامية المتلفزة أن يتسابقوا إلى الإشادة بالناجحين بقدر تسابقهم إلى النقد. هذه معادلة عملية بل أخلاقية لا بد منها إذا كنا ننشد البناء وتحقيق الأهداف ومكافأة المستحق.

سبق أن أشرت في مقال سابق إلى دور الحكومة في تناول مثل هذه الإنجازات وتقليد أبطالها الأوسمة وشهادات التقدير. هنا أكرر ما طالبت به وأتمنى إقامة احتفال سنوي لائق لتكريم المتفوقين في المملكة. أنا أتحدث عن أفراد ومؤسسات بل حتى جهات حكومية أو شبه حكومية. التحفيز جزء رئيسي في منظومة العمل وكما نحرص على النقد ولفت انتباه المسؤول إلى أي تقصير يجب أيضاً أن نحرص على من ينجح ويتفوق على الأهداف المرسومة.

مثل هذه الاحتفاليات وما قد يأتي معها من مكافآت مجزية سيكون لها الأثر المباشر في رفع مستوى الوعي الوظيفي وخدمة الوطن والمواطنين. أوسمة كهذه سترفع قدر من يحملها وستطرز سيرته الذاتية بمنجزات لا تتكرر في كل سيرة، وقد تؤهله إلى وظائف قيادية جديدة وأدوار أكبر بكثير، بما يعظم الاستفادة منه في أماكن أخرى، ربما هي في أمس الحاجة إلى مثل هذه القدرات.