نشرت الواشنطن بوست (20/6/2010) مقالا لـ"الراباي" (عالم الدين اليهودي)، ديفيد ف. نيسينوف، بعنوان "سألتُ هيلين توماس عن إسرائيل. وكشفتْ إجابتُها عن أكثر مما تظن". ونيسينوف هو الذي أجرى الحديث القصير المشهور مع المراسلة الأمريكية من أصل لبناني، هيلين توماس، عن رأيها في إسرائيل، فأجابتْه بأن يخرج الإسرائيليون من فلسطين التي استعمروها ويعودوا إلى البلدان التي جاؤوا منها.
وبدأ مقال نيسينوف، كما يفعل أنصار إسرائيل دائما، بالتظاهر بالتواضع وقلة الحيلة والمعاناة التي تدعو إلى الشفقة بهم. ولم يخف نيسينوف أن هدفه كان تسجيل لقطات مصورة قصيرة عن إسرائيل ـــ تتصل بالطعام، والآثار، والتاريخ، والتجارب الشخصية. وكان يطمع أن تنتشر هذه اللقطات على الإنترنت وتكون وسيلة لطيفة للترويج لإسرائيل. ويرى أن هذا الجهد "البشري" مهم لدعمها، وهو جهد واجب، في رأيه، لأنه، حتى وهو رجل دين، "لا يثق بالتدخُّل الإلهي" إلى جانبها!
ويقول إن رد فعله على إجابتها لم يكن لفظيا؛ بل كان "صوتا، ضوضاء، صادرا من أعماق" روحه، وكان ردَّ فعلٍ حقيقيا صادقا، وهو: "أوه"، مما يعني أن ما كان يشعر به في تلك اللحظة لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، فكان هذا التأوه أبلغ من أي تعبير لفظي.
ويَستغرب أن توماس لم تجب بشيء معقول. فهي "لم تقل إن حصار غزة غير قانوني، أو إن المعونات لا تصل غزة، أو إن المستوطنات غير أخلاقية... ولم تقل عودوا إلى القدس الغربية، وتل أبيب، وحيفا وإيلات. لا. لم تكن إجابتها حلَّ الدولتين. لقد كانت: اخرجوا وعودوا إلى بلدان الحل النهائي، بولندا وألمانيا. فلا صلة لليهودي بأرض إسرائيل".
ويتساءل عن سبب إجابتها تلك. وكان السبب، كما شرحتْه توماس، أنها "من أصول عربية". فيفاجئه ذلك التفسير فيتساءل: "هل هذا كل ما لديك؟ هل نترحَّل جميعنا ولا نَحمل معنا إلا الصور النمطية التي صنعها أسلافنا لكي توجِّهنا، مما يعني ألا نتجاوزهم أبدا لنصل إلى نهاية سلمية؟"
ولا يملك القارئ عند هذه النقطة من مقال نيسينوف إلا أن يتفق مع هذه الأفكار الحكيمة. ذلك أنها تعني أن يتوقف الفلسطينيون والإسرائيليون عن أن يكونوا أسرى للتاريخ، وأن يتعالوا جميعا على مآسي الماضي، ويبحثوا عن تسوية ربما لا تكون مثالية لكنها تحقق لهم بعض ما يريدون.
وكان المتوقع أن يكون موقف "الراباي" الحكيم نقيضا لرأي توماس الجذري. لكن المفاجئ أن تتلاشى هذه الأفكار الحكيمة سريعا ليقع "الراباي" في ما آخذ توماس عليه. ويتضح ذلك من عودته إلى تكرار السرديات الدينية الإسرائيلية المعهودة، فينخرط في سرد الصلة الدينية بين اليهود و"إسرائيل"، ويقول: "إن الصلة بين اليهودي وإسرائيل حقيقية، وتاريخية، وقديمة، وحديثة، وروحية وأبدية. إن هذه الصلة تتجاوز دولة إسرائيل. إنها علاقة فريدة بين الدين والأرض. فاليهود "أبناء إسرائيل". فهم حتى إن كانوا بعيدين عنها مرتبطون بها. بل إنهم مرتبطون بها حتى في فترات الملاحَقة والغُربة. بل إنهم مرتبطون بها حتى في فترات الإرغام على التحول عن اليهودية، والمذابح الجماعية والمحرقة".
ويبلغ تعبيره عن هذا الارتباط حدا بعيدا من الجذرية فيقول: "إن صلة اليهودي بإسرائيل لا فكاك منها. فليس هناك علاقة لتُفك. إنها علاقة تتجاوز عبارة "الشعب المختار" الغامضة؛ إنهم "الشعب الذي لا يملك خيارا آخر". إن هذه الصلة أكثر من كونها اعتقادا دينيا؛ إنها قيمة ومعيار أخلاقي للأرض. إن التاريخ والحقيقة، والكرامة والأسس التي يقوم عليها عالَمُنا ليست موضوعات للتفاوض".
والسؤال هو: أين غارت حكمة "الراباي"؟ ولماذا إذن تلك الحملة على هيلين توماس التي أجابت بجواب يماثل في حقيقته ما يقوله نيسينوف الحكيم؟ لماذا يؤاخِذ هيلين توماس ثم يرى أن ما يقوله هو مشروع؟ ولماذا لم يلتفت "الراباي" الحكيم إلى الفظائع التي ترتبت على سعي الإسرائيليين إلى تجديد علاقتهم بفلسطين ـــــ في رأيه؟
إن الموقفين مشابهان تماما. ويجب أن يُنظر إليهما على أنهما يمثلان تهديدا للسلام في المنطقة لأنهما يجعلان التعايش والتوصل إلى حل ملائم مستحيلين.
ومن اللافت أن يأتي هذان الموقفان الجذريان في وقت تبينت فيه استحالة قضاء الإسرائيليين على الفلسطينيين، أو قضاء الفلسطينيين على الإسرائيليين. ويشهد بهذه الاستحالة النقاشُ المستفيض الآن في الصحافة الإسرائيلية عن القناعة بعدم جدوى الاستمرار في التنكر لحقوق الفلسطينيين المشروعة. بل لقد وصل بعض كبار السياسيين الإسرائيليين إلى هذه القناعة الآن وهو ما جعلهم يدعون إلى حل الدولة الواحدة التي يعيش فيها الشعبان جنبا إلى جنب.
ومن ذلك ما كتبه وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق، موشيه أرينز، وهو من أشهر زعماء اليمين الإسرائيلي المتطرف. فقد كتب مؤخرا مقالا دعا فيه إلى حل الدولة الليبرالية الواحدة التي تتسع للفلسطينيين والإسرائيليين بشكل متساو. وكانت تلك الدعوة مجالا للنقاش اليومي تقريبا في الصحف الإسرائيلية.
ومن ذلك المقال الذي كتبه كارلوس سترينجر، في صحيفة هاآرتس، تعليقا على تلك الدعوة بعنوان: "أغرب من الأسطورة/ ينبغي على إسرائيل أن تفكِّر في حل الدولة الواحدة ــ فربما يكون ذلك قريبا خيارَها الوحيد" (18/6/2010م).
ويرى سترينجر أن من الأسباب لهذه الدعوة أن حل الدولتين يكاد يكون غير ممكن الآن. إذ لم تنجح حكومة إسرائيلية قط في تطبيقه، وبدأ الفلسطينيون يرفضونه، كما أن إسرائيل ربما لا تكون قادرة على اقتلاع أكثر من مائة ألف مستوطن في الضفة الغربية.
ومع تشكك سترينجر في إمكان تحقيق رؤية أرينز إلا أنه يرى أنها دليل على وجود تحد حقيقي لإسرائيل. إذ يمكن أن يترتب على هذه الخطوة، لأول مرة، أن تواجه إسرائيل مواجهةً حقيقة مهمةَ تعديل نظامها السياسي والثقافي وأن تفكر بالكيفية التي يمكن بها للجماعات الثقافية والدينية والفكرية المختلفة فيها أن تتعايش بدلا من أن يكافح كل منها من أجل الهيمنة.
وعلى الجانب الفلسطيني تبين الاستطلاعات الأخيرة التي قامت بها مؤسسة "فافو" النيرويجية في الضفة الغربية وغزة، أنه "أجاب 7 من كل 10 مستطلَعين بأن على الفلسطينيين أن يولوا اهتماما أكبر بوسائل المقاومة المدنية غير العنيفة. وأفاد 73% بأنهم يؤيدون استمرار مفاوضات السلام مع إسرائيل، شريطة أن تقوم تل أبيب بتجميد البناء الاستيطاني" (الشرق الأوسط 21/6/2010م).
لهذا فالموقفان الجذريان لهيلين توماس ونيسينوف لا يتوافقان مع الرغبة الحالية عند الطرفين في البحث عن حل عادل لهذه القضية المزمنة الشائكة.