سأعود في مدخل هذه الفكرة إلى اقتباس قديم لرئيس تحرير مجلة – المعرفة – الصادرة عن وزارة التربية والتعليم وهو يقول ما نصه: (الذي يطالع الصحافة المحلية ويقرأ ما يكتب عن التعليم فيها ستكون لديه فكرة متشائمة جدا مفادها أن التعليم على وشك الانهيار وأن الطلاب لا يتلقون شيئا ذا قيمة وأن المعلمين لا يؤدون واجبهم كما ينبغي وأن المناهج هزيلة جدا إلى حد بعيد وأن طريقة التعليم بائسة وتبعث على الملل والإحباط. والذي يطالع الصحافة المصرية ويقرأ ما يكتب فيها عن التعليم المصري سيعتقد مثلما يعتقده من قرأ عن التعليم السعودي في الصحافة السعودية، والأمر لا يختلف في الولايات المتحدة كثيرا في انتقاد نظامها التعليمي باستمرار وعلى أعلى المستويات بدءا بالرئيس وانتهاء بالصحافة مرورا بالكونجرس، إذ يفشل 25% من الطلاب الأميركيين في التخرج من المدارس الثانوية العليا و60% من الذين التحقوا حديثا بالجامعة في حاجة إلى برنامج علاجي إضافي كما هو الحال مع خريجي الثانويات في السعودية الذين يقضون سنة تحضيرية في الجامعة. يواصل (تطمح مملكة السويد جاهدة إلى إيصال الكهرباء وتوفير دورات المياه في مدارس ريفها الواسع كما هو الحال في إحدى دول المغرب العربي). انتهى (سلطان المهنا، مجلة المعرفة، العدد 181، إبريل 2010).

واسمحوا لي إن قلت بالحرف الصريح إن لعبة التحالف بين الإحصاء وبين المقارنة هي أكبر عملية تضليل تستطيع معها عبر الإحصاء تزييف بعض الوقائع والحقائق. يستطيع مثلا رئيس تحرير مجلة الصحة الصادرة عن الوزارة أن يكتب في الصفحة الأخيرة بالمثال (إن الذين ينتقدون مستوى الخدمات الصحية في بلادنا قد لا يعلمون أن عدد المرضى الذين ينتظرون موعد عملياتهم الجراحية في بريطانيا يبلغ اليوم 620 ألف مريض وهم بالإحصاء أكثر من عدد المرضى لدينا على ذات الطلب بنسبة 320%). بمثل هذا التزييف الإحصائي الافتراضي يستطيع المسؤول أن يدهشنا بالنسب ولكنه يتناسى بالعمد فوارق أعداد السكان مثلما يتجاهل أحجام الصرف على الفرد المواطن وهي تبلغ لدينا رأس الذروة ولكن بعوائد أدنى بكثير من الواقع والمتوقع. وبالمقاربة الإحصائية السابقة يستطيع مسؤول العلاقات العامة بوزارة التعليم العالي أن يقول بالافترض ما نصه: (إن الجامعات السعودية في العام الماضي استطاعت استيعاب ما يزيد على 84% من خريجي الثانوية العامة وهي نسبة تتفوق على المعدل الأميركي (73%) والسويدي (71%) وعلى نسبة ما استطاعته موزامبيق وجزر القمر السفلى والعليا (67%). هو افتراضا، بمثل هذا الإحصاء الانتقائي لم يذكر مثلاً أن 20% من هذا القبول الواسع يذهب إلى كليات مجتمع غير مصنفة في وظائف السلم المدني ولم يذكر أيضا أن ثلثي المقبولين في الجامعات يذهبون إلى أقسام دراسية لم توظف واحدا من خريجيها بطريقة نظامية تلقائية على الأقل لنصف عقد من الزمن. هو بمثل هذا الإحصاء والمقاربة لم يشر إلى أن 70% من طلاب الجامعات يدرسون في تخصصات نظرية وعلوم إنسانية لم يعد لها أدنى قيمة تسويقية في سوق الوظيفة والمستقبل.

وعودا على بدء. هل يستطيع مسؤول مجلة المعرفة أن يقنعنا بصحة المقاربة الإحصائية ما بيننا وبين أميركا والسويد في نجاعة النظام التربوي وفي كفاءة المناهج المدرسية؟ هو يستطيع، بالمثال، أن يقول إن أعداد الحصص الدراسية لمادتي الرياضيات والعلوم تفوق في جداول طلابنا أعداد الحصص المخصصة لكل المواد الأخرى، وهنا سيدهشنا بمثل هذا الإحصاء ولكنه لن يأخذنا بعيدا عن الحقيقة الأخرى التي تقول إن طالب الصف الثالث المتوسط السعودي يدرس في الأسبوع الواحد ما يناهز 18 مادة مختلفة، بينما يدرس نظيره الأميركي ثماني مواد نصف حصصها في العلوم والرياضيات. هو أيضا يتجاهل أن ابنتي، مثالا، في الصف الثالث المتوسط تنهي في الفصل الدراسي الحالي وبالإحصاء المضاد ما يقرب من الامتحان في 4000 ورقة منهج دراسي لا تمثل منها الرياضيات والعلوم إلا (384) ورقة. نستطيع جميعا أن نتحدث عن 60% من رداءة دورات المياه بمدارس السويد ولكننا وبالإحصاء المضاد سنبرهن أن الطالب السعودي لا يملك من مساحة فصله الدراسي المكتظ المزدحم سوى نصف متر مربع، وهي وبالإحصاء أقل من نصف المساحة التي يمتلكها المواطن اللندني في مترو الأنفاق عند الساعة الثامنة والنصف صباحا وفي قمة الازدحام وساعة الذروة. وأنا اليوم لا أناقش جودة التعليم ولا مستوى الصحة ولا نوعية الطرق ولا حجم البطالة ولا نسب التوظيف بقدر ما أناقش المسؤولين الذين يخدعوننا بالوجه الانتقائي المشرق لبعض معادلات الإحصاء وتزييف جمل المقارنة. أحذر من أن علم الإحصاء نفسه سيكون أكبر مخدر تنموي وأضخم عملية تضليل إن لم تكونوا متسلحين بالإحصاء المضاد. يستطيع المسؤول أن يضعك إحصائيا مع السويد وأستطيع بالعكس أن أضعك مع زامبيا.